زياد حافظ يحاضر عن العولمة بين شعارت الأمس ومأزق اليوم
بشور: حافظ مثقف نهضوي وتقارير المؤتمر القومي تكشف صدق تحليلاته
بيروت - وجدان شبارو
في إطار الندوة الشهرية التي بدأ بتنظيمها المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن في أول أربعاء من كل شهر، ألقى نائب رئيس المركز الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي محاضرة بعنوان “العولمة بين شعارات الأمس ومأزق اليوم” شارك فيها حشد من المهتمين وقدّم لها رئيس المركز الأستاذ معن بشور بالقول: يسر المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن الذي أخذ على عاتقه تنظيم التواصل والتضامن بين قضايانا وأحرار العالم، أن يكون نائبه الدكتور زياد حافظ أول المحاضرين في برنامج محاضرات شهرية ينظمها المركز في أول أربعاء من كل شهر وتتناول موضوعات تشغل بالنا كنهضويين في أمّتنا وكأحرار في العالم.
رؤية مميزة
ويتميّز الدكتور زياد حافظ بأنه مثقف يجمع بين الالتزام بمشروع نهضة الأمّة من جهة، وبين رؤيوية متميّزة جعلته يتوقع بالتحليل أموراً عديدة قبل وقوعها، ولعل أهمها توقعه للأزمات البنيوية الذي ستقع فيها الولايات المتحدة خلال الدورة 14 للمؤتمر القومي العربي التي انعقد في صنعاء بعد أسابيع على احتلال العراق، وبينما كان كثيرون يتوقعون هيمنة طويلة الأمد للإدارة الأمريكية على العالم والمنطقة، ويومها اعتقد كثيرون أن الدكتور زياد متفاءل أكثر من اللزوم، فجاءت أحداث 2008 المالية، ثم ما نراه اليوم ليؤكّد صوابية تحليله التي كان يحتضنها كل عام التقرير السياسي بدورات المؤتمر القومي العربي السنوية منذ أكثر من عشر أعوام.
العولمة بين شعارات الأمس وحقائق اليوم
د. زياد حافظ (لبنان/أمريكا)
10/4/2025
مصطلح “عولمة” يحمل في طيّاته في الفكر الغربي أن العالم واحد وبالتالي الفروقات بين مكوّنات العالم يجب ان تذوب إما تلقائيا أو قسريا. ويحلو للغرب وللنخب العربية المتغرّبة اعتبار العولمة شمّاعة يمكن التعليق عليها كل ما يحصل من صراعات سياسية واقتصادية وسكّانية، واجتماعية، وثقافية، وبيئوية. ويعتبر الكثيرون أن العولمة نظام متكامل له تلك الابعاد للصراعات بينما في الحقيقة العولمة ليست نظاما قائما بحدّ ذاته، بل حالة نتجت عن التطوّرات الناتجة التي احدثتها الثورة التكنولوجية في المواصلات والتواصل والاحتساب.
هذه الثورة التكنولوجية مكّنت الإنسانية القفز فوق الحواجز الطبيعية التي كانت تعوّق أو تحول دون التفاعل بين الشعوب. وهذا التفاعل بين الشعوب سنة الحياة البشرية منذ ظهور الانسان على وجه الأرض وكرّستها أحكام دينية كما جاء في القرآن الكريم “ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات:13) وأيضا “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ” (الروم: 22) لذلك التواصل بين الشعوب هو أمر طبيعي. وهذا التواصل المكثّف ساهم في إطلاق شعارات تجذب الانسان علما أنها تحمل معان كبيرة في السياسة والاقتصاد حاولت الدول الغربية ونخبها الحاكمة خطفها وتحريفها لصالحها. فالأزمة التي يعيشها العالم ليست أزمة العولمة بحد ذاتها، بل أزمة الدول الغربية وليس دول العالم الجنوب الإجمالي خلافا لم تروّجه المراكز الغربية. وفحوى هذه الازمة هو عقم وفشل المفهوم النيوليبرالي للعالم والعلاقات البشرية الذي يعتمد على الداروينية والملتوثية في بلورة سياسات تهدف إلى إعادة تعيين العالم كما جاء في أدبيات منتدى دافوس (The Great Reset).
عن أولى الشعارات التي تلازمت مع نتائج الثورة التكنولوجية في التواصل والمواصلات والاحتساب التي أشار إليها المحاضر هو أن العالم أصبح قرية. ومصطلح “قرية” له دلالات عديدة منها أن القفز فوق الحواجز الطبيعية يجعل التفاعل بين الشعوب أكثر فعّالية كما يحصل في التجمّعات السكنية الصغيرة. ولكن من دلالات “القرية” أن الفروقات بين مكوّنات “القرية” صغيرة ويجب أن تتلاشى لتجعل “ألتجانس” أكثر ترويجا وإن كان على حساب الطبيعة والفطرة وخاصة الاحكام الالهية. ولتحقيق ذلك التجانس لا بد من سياسات اقتصادية واجتماعية تعيد النظر في الموروث الثقافي لدى الشعوب وإحلال مكانه ثقافة مختلفة متجانسة. هذا هو فحوى السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها الحكومات الغربية منذ نهاية الحرب الباردة. وهذه السياسات النيوليبرالية أفرزت شعارات إضافية.
فالشعار الثاني الذي تلازم مع تلك الحقبة النيوليبرالية هو شعار الخيار بين الحداثة والتقليد والذي عبّر عنه الصحافي توماس فريدمان في مؤلّفه الشهير “اللكسوس وشجرة الزيتون”. هذا الشعار له دلالات سياسية واقتصادية ومجتمعية وثقافية عديدة سنعرضها بشكل سريع. سيارة اللكسوس الفخمة اليابانية تشير إلى تحوّل مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع ينتج أحدث السلع. وشجرة الزيتون تشير إلى المجتمعات التقليدية المحافظة. ويذكّرنا ذلك الشعار بشعار الذي رفعه الشهيد ياسر عرفات في خطابه الشهير في الأمم المتحدة سنة 1974 عندما قال إنه جاء حاملا غصن الزيتون (أي السلام) والبندقية (أي الحرب). وإصراره على القاء الخطاب ومسدّسه بجانبه جاء ليعبّر عن جدّية الخيار المطروح لمجمع الأمم في مقاربة القضية الفلسطينية. توماس فريدمان استغل ذلك الشعار ليطرح على العالم بشكل عام وخاصة الشعب العربي الخيار بين الحداثة (أي سيّارة اللكسوس) وما تحتويه من تغييرات في بنيتها المجتمعية والثقافية وبين التقليد (أي شجرة الزيتون) الذي يعني الاستمرار في التخلّف. وهذا الخيار الذي طرحه كان قبل تحقيق النصر في 2000 وفيما بعد في 2006 وحاليا بعد 7 أكتوبر حيث أصبحت المقاومة عاملا جديدا يواجه التيّار المعولم الذي ينفي الهويات الوطنية والقومية لصالح مفاهيم مناهضة للموروث الثقافي. من هنا نفهم الحملة الشرسة في الغرب لاجتثاث ليس المقاومة وسلاحها فحسب، بل فكرة المقاومة سواء في فلسطين أو الوطن العربي وأيضا في العالم الغربي الذي نزلت شعوبه إلى الشارع للاعتراض على الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة والضفة الغربية.
موارد متاحة
الثنائية المصطنعة التي أُطلقت بين الحداثة والموروث الثقافي كانت القاعدة الفكرية لترويج ثقافة الاستهلاك وفقدان الهوية لتذويب الفروقات وفرض التجانس. العالم أصبح مجموعة من المستهلكين هدفهم في الحياة إشباع رغباتهم وليس بالضرورة حاجاتهم. والرغبات هي أوسع من الحاجات وبالتالي الموارد المتاحة لإشباعها تصبح محدودة بسبب وتيرة زيادة السكّان. هذه هي الملتوثية الجديدة التي تشكّل قاعدة النيوليبرالية حيث السياسات الاقتصادية والاجتماعية تهدف إلى تقليس عدد السكّان عبر ضرب مفهوم الاسرة وترويج المثلية والتحوّل الجنسي ناهيك عن ترويج الحروب وعدم الاكتراث للمجاعات والكوارث الطبيعية. تصريحات بيل غيتس مؤسس شركة مايكرو سوفت يقول في أكثر من مناسبة ان عدد سكّان المعمورة الذي قارب 8 مليار أكثر مما تستطيع تحمّله وبالتالي يجب اتخاذ سياسات تقلّس عدد السكان لخمسمائة مليون نسمة عبر التعقيم! فضيحة الكورونا وفرض التلقيح المشبوه يأتي في هذا السياق. المهم هنا أن تلك السياسات يتم ترويجها عبر ومنتديات سياسية واقتصادية وثقافية أسمّيها منتديات الدمار الشامل والتي عرضتها في سلسلة من المقالات نشرت في صحيفة “الاخبار” في 2022 إضافة إلى سلسلة أخرى حول النيوليبرالية وجذورها وآفاقها وتلازمها مع تحريف مفهوم العولمة. واعتقد بناء عل دراسات وتقارير أن ملابسات التي رافقت تعاطي الدول الغربية لجائحة الكورونا دليل حول الهدف غير المعلن لتحقيق أهداف الملتوثية الجديدة.
الشعار الثالث هو نهاية التاريخ الذي أطلقه فرنسيس فوكوياما. والأخير هو تلميذ سامويل هنتنغتون الذي هو بدوره تلميذ برنارد لويس لم لهم من دلالات في التوجّه الفكري تجاه العالم بشكل عام والأمة العربية والإسلامية بشكل خاص. هذا الشعار جاء بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفيتي لينهي حقبة صراع حكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا الشعار يحمل في طيّاته أن العالم لم يعد يحكمه الصراع العقائدي بين منظومتين، بل أن الامر استتب للمشروع الديمقراطي الليبرالي الغربي. فنهاية التاريخ هي نهاية الصراعات وتثبيت القيم الغربية والحوكمة الغربية كقيم عالمية. لن ندخل في مقاربة ذلك المفهوم لأنه مبنى على تمنّيات ورغبات وليس على وقائع يمكن مناقشتها. المهم هو ان فرنسيس فوكوياما أعاد النظر في اطروحته بعد ما تبيّن أن العالم ما زال تحكمه صراعات منها عقائدية ومنها سياسية كما أن الديمقراطية أصبحت نسبية وأن حرّية الأسواق ليست إلاّ تصوّرا بعيدا عن الواقع. كما أن تلك النظرية تتجاهل العرقيات ودور الموروث الثقافي للمجتمعات عامة وخاصة في المجتمعات العربية والإسلامية.
وتلازم ذلك الشعار مع الشعار الرابع أي “صراع الحضارات” الذي أطلقه سامويل هنتنغتون وقبله برنارد لويس ويهدف إلى تكريس قوّامة الحضارة الغربية على سائر الحضارات وخاصة الحضارة العربية الإسلامية.
وشعار صراع الحضارات يتناقض مع شعار “نهاية التاريخ” الذي يكرّس هيمنة القيم الغربية بينما شعار “صراع الحضارات” يعني أن الصراع العقائدي لم يعد قائما، بل اختلاف منظومات القيم والحضارات هي التي تسبّب الصراعات والحروب. وفي هذا السياق اعتبر هنتنغتون أن الحضارة العربية الإسلامية على تناقض مع الحضارة الغربية وبالتالي الحروب ستكون ليس بين الدول، بل بين الحضارات. هنا أيضا لن ندخل في السجال حول تلك النظرية التي فنّدها ببراعة كل من ادوارد سعيد وجورج قرم ورودولف القارح وغيرهم.
هذه الشعارات بما لها من ثغرات ساهمت في إعطاء الغطاء الفكري والسياسي والثقافي لخطف مضمون العولمة وتحريفها عن جوهرها في تفاعل الشعوب بعضها ببعض على قاعدة المنفعة والمصلحة المشتركة. واختطاف العولمة ضمن المفهوم الغربي هو لتحقيق الربح لفئة على حساب فئة أخرى. فبين مفهوم العولمة الذي تحمله اليوم الكتلة الاوراسية والجنوب الإجمالي على قاعدة “اربح أربح” كانت العولمة الغربية على قاعدة اللعبة الصفرية.
المأزق فما هو واقع الحال اليوم؟
نتيجة اختطاف آليات العولمة لصالح الهيمنة الغربية وخاصة الأميركية هو المأزق الذي تعيشه تلك الدول. فالعالم الغربي في مأزق بنيوي نتيجة خيارات وسياسات اتبعتها النخب الحاكمة في الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة أدّت إلى فقدان القاعدة الإنتاجية الصناعية التي كانت ركيزة القوّة السياسية والعسكرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والتحوّلات في البنية الاقتصادية لصالح اقتصاد ريعي مالي على حساب القطاعات الإنتاجية كانت لها تداعيات على البنية السياسية والاجتماعية والسكّانية. الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص اعتبروا أن السيطرة على العالم ستستمر عبر السيطرة على شرايين المال من جهة وعلى القوّة العسكرية المفرطة. هذا كان جوهر السياسة الخارجية الغربية. إلاّ أن تداعيات تلك التحوّلات تناولت البنية الاجتماعية وبالتالي السياسية لتلك الدول.
قطاع خدمي
فمن جهة تراجع دور النقابات في الاقتصاد حيث القطاع الخدماتي وخاصة الخدمات المالية لا يتحمّل وجود نقابات الذي تراجعت أهميتها بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ما أدّى إلى تراجع دور الطبقات الوسطى وتفاقم الفجوة بين القلّة التي لا تتجاوز الواحد بالمائة من عدد السكان وسائر مكوّنات الشعب. كما أن تلك التحوّلات أدّت إلى بروز طبقة جديدة هي طبقة المحترفين الإداريين (professional managerial class) الذين شكّلوا طبقة النخب المهيمنة والتي لا تكترث لسائر مكوّنات الشعب فحسب، بل تحتقرها وتعتبرها من “المنبوذين” (deplorables) كما جاء على لسان هيلاري كلنتون في وصف الجمهور المؤيّد لترامب والذي يتناقض مع تلك النخب الجديدة. هذه الطبقة الجديدة سيطرت على المشهد السياسي في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة. وهذه السيطرة أتت بعد السطو على العملية الانتخابية عبر الانفاق المالي الذي يقدّمه مجمع المانحين أي أصحاب الثروات الكبيرة لشراء الولاءات والذمم سواء داخل مكوّنات الدولة العميقة أو خارجها. فأصبح ولاء المسؤول “المنتخب” للمانح وليس للناخب.
كذلك الامر حصل في أوروبا وخاصة في مؤسسة الاتحاد الأوروبي حيث النخب الحاكمة المعيّنة وغير المنتخبة ليست خاضعة للمساءلة والمحاسبة. هذا الانحراف السياسي جعل من الطبقة الحاكمة منقطعة عن قاعدتها الشعبية ومتجاهلة لمتطلّبات تلك القاعدة. هذا خلق المأزق السياسي الداخلي الذي انعكس بدوره على بروز نخب حاكمة رديئة في الفهم والعلم والأخلاق. وهذا التردّي أدّى بدوره إلى تسارع وتيرة الانهيار في الأداء وفي مكانة الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة بينما ظهرت نخب حاكمة أكثر كفاءة وحكمة خارج تلك المنظومة في دول الكتلة الاوراسية ودول الجنوب الإجمالي التي تعمل على الاستجابة لمطالب شعوبها.
وهذا التراجع في القاعدة الإنتاجية الصناعية رافقه تراجعا في القدرات التكنولوجية كما انعكس بشكل مباشر على القدرات العسكرية التي أصبحت مترهّلة للغاية وفقا للدراسات التي أعدتها مراكز الأبحاث المختصة. فالدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة أصبحت عاجزة عن الانتصار في الحروب التي تشنّها يمينا وشمالا كما أصبحت عاجزة عن فرض إرادتها بالقوّة على الدول التي تريد التمسّك بسيادتها واستقلاليتها. الدرس في أوكرانيا خير دليل على العجز العسكري الذي ينتتج عن عجز اقتصادي الذي ينتج عن عجز سياسي الذي ينتج عن انحدار في العلم والأخلاق. كما أن الإخفاق العسكري في اليمن دليل آخر حول عجز الولايات المتحدة في ارضاخ اليمن. وطبعا لا يجب أن يغيب عن البال الخروج المذّل من أفغانستان بعد احتلال دام أكثر من عشرين سنة وأيضا العجز في قوّات الاحتلال للكيان الصهيوني في حسم الصراع في غزة ولبنان رغم التفوّق النظري في التكنولوجيا والقوّة النارية والدعم اللامحدود له من قبل الولايات المتحدة.
أما فيما يتعلّق بالسيطرة على شرايين المال كرديف للقوّة العسكرية فإن مجمع عالم الجنوب يتجاوب مع اقتراحات مجموعة البريكس في التعامل التجاري والمالي خارج منظومة الدولار وخارج منظومة السويفت التي تتحكّم برسائل التحويلات المالية. ما أقدمت عليه الصين مؤخرا في إطلاق منظومة رقمية خارج إطار السويفت تجعل رسائل التحويلات المالية تتم في 7 ثوان فقط بينما في منظومة السويفت تأخذ بضعة أيام. وبالتالي نرى تراجع التعامل بالدولار بشكل ملموس ما يقوّض إمكانية السيطرة الأميركية على مجريات الأمور سياسيا واقتصاديا. فالخروج من الدولار هو ضربة قاسمة للهيمنة الاميركيية.
هذا الواقع المتردّي على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والمجتمعي والثقافي ينذر بتفكّك المنظومات السياسية، بل الكيانات السياسية حيث الانقسامات الداخلية أصبحت تطغى على الأداء السياسي وعجز المؤسسات الدستورية في الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة عن فضّ الخلافات ما زاد من تراجع الثقة بها من قبل الجمهور العام. وتفاقم الوضع الداخلي يتلازم مع تفاقم العلاقات الدولية حيث حاول الغرب وخاصة الولايات المتحدة فرض نظام عالمي جديد تحت شعار نظام الاحكام التي يحدّدها بنفسه تنفيذا لمفهومهم للعولمة، ولكن ضاربا عرض الحائط منظومة العلاقات الدولية التي تستند إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية. هذا الانحراف في التعاطي بين الدول وخاصة من قبل الغرب والولايات المتحدة دفع ظهور وصعود كتلة مناهضة تقوم على احترام القانون الدولي وسيادة الدول والمواثيق والمعاهدات الدولية وإن التعامل بين الدول هو على قاعدة المنفعة المتبادلة والندّية. هذه هي منظومة البريكس ومشتقاتها الذي ينضم إليها مجموعة دول الجنوب الإجمالي. وهذا التعاطي الجديد يتمثّل بالاتفاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين، بين روسيا والجمهورية الإسلامية في إيران، وبين الصين وإيران. كما أقدمت الهند على تفاهمات مع الصين تنهي عقودا طويلة من الصراعات لما فيها من تنمية العلاقات والمصالح المشتركة.
الحرب في أوكرانيا وطوفان الأقصى وموقف الدول الغربية تجاه روسيا والفلسطينيين أطاح بزيف الادعاءات الغربية في احترام حقوق الانسان في تبنّيها للمواقف العنصرية وخاصة فيما يتعلّق بالإبادة الجماعية التي تتعرض إليها غزة تحت مرأى ومسمع العالم باللحظة التي تحصل فيها. فكل مزاعم “العولمة” التي اختطفها الغرب سقطت في روسيا وفي غزة التي أصبحت بدورها في صلب الحراك السياسي داخل الدول الغربية لما كشفت من نفاق في ادعاء احترام القانون وحقوق الانسان وحرّية التعبير.
من تداعيات المأزق التي تعيشه الدول الغربية هو تناثر مفهوم الغرب الجماعي (collective West) حيث أصبحت الدول تفتّش على مصالحها الوطنية وليس على مصالح جبهة تتحكّم فيها نخب غير منتخبة لا تخضع لمساءلة أو محاسبة. تفكّك تلك المجموعة يتلازم مع تراجع وزنها الاقتصادي في الناتج الاجمالي الذي لا يتجاوز 28 بالمائة من الناتج العالمي. وخير دليل على ذلك التراجع مقال توماس فريدمان الأخير في صحيفة النيويورك تايمز يؤكّد فيها أن المستقبل هو في الشرق.
السياسات النيوليبرالية في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة على الصعيد السياسي والاقتصادي والمجتمعي والسكّاني والثقافي والبيئوي أدّت إلى ردود فعل تراكمت خلال العقدين الماضين تجسّدت في نهوض الحركات اليمينية في أوروبا عموما وفي الولايات المتحدة للتأكيد على رفض تذويب الهويات الوطنية لصالح مفاهيم مجرّدة التي يطلقها منتدى دافوس والنخب النيوليبرالية الحاكمة. كما أدّت إلى رفض تغيير الموروث الثقافي والقيمي الذي يتصدّى لشعارات وسياسات مناهضة لذلك الموروث كسياسة ترويج الجواز المثلي والاجهاض ورفض التمييز الجندري إلخ.
أما على الصعيد السياسي والاقتصادي فنمو الحركة الشعبوية في الولايات المتحدة بقيادة ترامب جعلت الطبقة السياسة تواجه تحدّيا لوجودها بالكامل وكذلك الامر في دول أوروبا. ترمب أطلق شعار أمركة الاقتصاد الأميركي وهذا يأتي على حساب السياسات النيوليبرالية التي أدّت إلى فقدان القاعدة الإنتاجية الصناعية الأميركية التي كانت المصدر الأساسي للقوّة الأميركية ونفوذها بالعالم حتى منتصف الستينات من القرن الماضي. عند ذلك الحين بدأ الانحدار بسباب ارتفاع نفقات الحروب التي دخلت فيها الولايات المتحدة كالحرب في فيتنام فيما بعد احتلال أفغانستان والعراق وسورية وإقامة القواعد العسكرية في العالم بحجة محاربة المدّ الشيوعي ومحاصرة واحتواء الاتحاد السوفيتي وفيما بعد الارهاب.
إعادة القوّامة عند ترمب تبدأ بإعادة المصانع إلى الولايات المتحدة عبر سلسلة من إجراءات تحفيزية وعقابية على حدّ سواء. فهل ينجح بذلك هذا ما سيتم متابعته علما أن نتائج تلك الإجراءات سواء كانت تحفيزية أو عقابية لن تظهر بالمدى القريب. لكن ما يهمّنا اليوم هو أن مفهوم العولمة الذي اختطفته النخب النيوليبرالية لم يعد قائما في النخب الجديدة الحاكمة في الولايات المتحدة وعند النخب الأوروبية المتضرّرة من جرّاء السياسات النيوليبرالية.
بالمناسبة نريد الإشارة إلى سلسلة الأوراق التي قُدّمت للمؤتمر القومي العربي خلال العقد الماضي التي شرحت بشكل مفصّل التحوّلات في العالم، في الغرب كما في الشرق والتي أظهرت ارهاصات للمشهد الحالي. كما لنا سلسلة من الأبحاث حول جذور النيوليبرالية ومنتديات الدمار الشامل التي كانت تتحكّم بالمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم الغربي. لكن بما أن العالم الغربي المختزل بمجموعة الجي 7 لم يعد مهيمنا على المقدّرات الاقتصادية مع صعود مجموعة البريكس ومشتقاتها في الكتلة الاوراسية وغرب أسيا مجمل دول الجنوب فإن مفهوم العولمة يأخذ معان جديدة مبنية على قاعدة احترام الاخر والندّية وقاعدة اربح- اربح. مجموعة البريكس ومشقاتها ومجمع دول الجنوب الإجمالي هم من يحملوا لواء العولمة على أسس وقواعد مختلفة عن تلك التي حاول الغرب فرضها على العالم.
* باحث وكاتب اقتصادي سياسي أمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي ونائب رئيس المركز العربي والدولي للتواصل والتضامن