الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مغنيّة.. فقيه ردّ الاعتبار للعقل الاجتماعي

بواسطة azzaman

هكذا فهمتهم

مغنيّة.. فقيه ردّ الاعتبار للعقل الاجتماعي

مجيد العقابي

هكذا فهمتُ الشيخ محمد جواد مغنية. لم يكن رجلًا ينتج كتبًا ليملأ الرفوف، بل كان فقيهًا أراد أن يحرّك العقل الشيعي من داخله، وأن يربط بين النص والإنسان، وبين الفقه والواقع، وبين الدين والحياة. لم يكن مشروعه تنظيرًا باردًا، بل محاولة جادة لإعادة بناء العلاقة بين المذهب والعصر، خاصة في زمنٍ كان الفقه فيه محاصرًا داخل لغة مغلقة لا تُرى فيها ملامح المجتمع ولا نبض الإنسان.

مغنيّة كان من أوائل من قالوا إن الفقه لا يُقاس بعدد الحواشي بل بقدرته على حلّ مشكلات الناس. ولذلك ألّف كتابه الشهير «الفقه على المذاهب الخمسة»، وهو كتاب أكبر بكثير من مجرد مقارنة مذاهب؛ لأنه كان ثورة منهجية على الانغلاق المذهبي، ومحاولة لإعادة الفقه إلى موقعه الطبيعي: علمٌ يبحث عن الحق لا عن انتصار طائفة، وعن المصلحة لا عن الخصومة، وعن المشتركات لا عن الخنادق.

لقد فكّك مغنية بهذا الكتاب فكرة “الاختلاف العدائي”، وأظهر للناس أن الفقه الإسلامي – بمذاهبه الكبرى – يملك ثراءً لا يجوز أن يُلاحق بالتجريح، وأن المذاهب ليست حدودًا سياسية بل مدارس تفكير.

ومن خلال قراءتي له، رأيت أن الرجل لم يكن يكتب لطلّاب الحوزة فقط، بل للجيل كله. لذلك كانت لغته صافية، مفهومة، قوية، بعيدة عن التعقيد، وكأنّ هدفه أن يرى الفقه على ألسنة الناس، لا أن يبقى في الغرف المغلقة.

وفي كتبه التفسيرية (في ظلال نهج البلاغة، من وحي القرآن) كان يقدّم قراءة هادئة للنص، قراءة لا تخضع للغلوّ ولا للتقليل، بل تُعيد للنص إنسانيته، وتُظهر أن الدين ليس روايات جامدة بل حركة عقل وروح.

على مستوى الفكر الاجتماعي، كان مغنية من القلائل الذين انتبهوا إلى أن المجتمع الشيعي – في القرن الماضي – كان مهددًا بالتشدد والانغلاق. لذلك كتب عن العدل الاجتماعي، عن الفقر، عن الظلم، عن علاقة الدين بالسلطة، عن مسؤولية العلماء تجاه الناس، وعن فساد الأنظمة التي تتستر بالدين. وفي كتابه المؤثر «الشيعة والحاكمون» صاغ تحليلًا عميقًا للعلاقة بين التشيّع والسلطة عبر التاريخ، وبيّن أن الظلم لا يصبح شرعيًا إذا حمل لافتة دينية.

وأشهد للتاريخ – باختصار ودون تفاصيل – أن هذا الكتاب أثّر فيَّ شخصيًا في التسعينيات، وكان له دور في تشكيل وعيي المبكر تجاه مفهوم السلطة والعدل، وقد دفعني إلى موقفٍ شجاع يومها تجاه الحاكم القائم آنذاك. لا أسرد تفاصيل القصة لأن النية ليست الحديث عن النفس، بل عن قوة الكتاب وقدرته على أن يُحدث تحوّلًا في وعي القارئ حين يلتقي العقل بالصدق.

وإذا أردنا إنصاف الرجل، فلا بد من أن نمدح شجاعته الفكرية. مغنية لم يخف من نقد العقل المذهبي حين يتعصب، ولم يخف من نقد المؤسّسة الدينية حين تغلق باب الاجتهاد، ولم يخف من مواجهة الخطاب الذي يستغل الدين سياسيًا. فهم الدين لا بوصفه أداة للسيطرة، بل بوصفه منظومة أخلاقية تُقيم العدل في حياة الناس.

وقد نال بسبب ذلك خصومة من بعض المتشددين، لكنه بقي ثابتًا، وكتب بضمير العالم الذي لا يريد أن يرث الجهل بل يريد أن يُنهيه.

ومع هذا كله، فإن النقد العلمي يقتضي أن نقول إن الشيخ مغنية – رغم قوته التجديدية – لم يُنتج مشروعًا أصوليًا متكاملًا، ولم يضع إطارًا نظريًا شاملًا كالذي قدّمه السيد محمد باقر الصدر مثلًا. كان مجددًا مهمًا في التطبيق، وناقدًا كبيرًا في الفقه الاجتماعي، لكنه لم يؤسس مدرسة اجتهادية تُبنى عليها عشرات الأطاريح من بعده، وهذا ما جعله مؤثرًا في الوعي أكثر من تأثيره في بنية الحوزة نفسها.

ومع ذلك فإن قيمة مشروعه ليست في “الإطار النظري” بل في “تغيير العقل العام”، وهذه وظيفة لا يقوم بها كثيرون.

هكذا فهمته: فقيه منفتح، ناقد شجاع، صاحب عقل اجتماعي، لغته سهلة وفكره عميق، يعيد التوازن إلى الدين حين يميل، ويعيد ربط الفقه بمصالح الناس حين يجفّ، ويعيد لنا درسًا بديهيًا نكاد ننساه دائمًا: أن الله لم يشرّع حكمًا ليعذب به الناس، بل ليصلح حياتهم.

مغنية ينتمي إلى تلك الفئة النادرة من العلماء الذين لا يتكبرون على القارئ ولا يتعالون على المجتمع، بل يذهبون إلى الناس بلغتهم، ويشرحون النص بروح العدالة، ويقفون أمام السلطة بضمير الإنسان، ويرفضون أن يكون الدين مطية للظالمين.

وهكذا بقي عبر كتبه:

صوتًا للعقل،

وصوتًا للفقير،

وصوتًا للمجتمع،

وصوتًا للإسلام الذي يليق بالإنسان.

مركز الفكر للحوار والإصلاح


مشاهدات 41
أضيف 2025/12/30 - 12:01 AM
آخر تحديث 2025/12/30 - 2:02 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 81 الشهر 22196 الكلي 13006101
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير