الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إستغلال المنابر في الحرب النفسية لتخريب الأوطان

بواسطة azzaman

من أجل مواجهة المنصّات الإعلامية المسيئة

إستغلال المنابر في الحرب النفسية لتخريب الأوطان

 

قتيبة آل غصيبة

 

حين تتحول المنابر الدينية والمنصات الإعلامية من أدوات توعية وبناء أخلاقي ووطني إلى أدوات تحريض وتعبئة كراهية، فإننا لا نكون أمام خلل خطابي عابر؛ بل أمام أحد أخطر أساليب التخريب المنهجي التي تُستخدم في الحروب النفسية الحديثة، فاستغلال هذه المنابر لا يولد من فراغ؛ بل يقع في صميم استراتيجيات الأعداء الرامية إلى تدمير القيم الأخلاقية والوطنية من الداخل؛ وإضعاف مناعة المجتمع؛ تمهيداً لإعادة هندسته نفسياً وفكرياً بما يخدم مصالح قوى خارجية لا تحتاج إلى احتلال عسكري ما دام التفكك يتحقق بأيدي أبناء الوطن أنفسهم.

إن الحرب النفسية؛ كما أثبتت تجارب الدول والمجتمعات المنهكة؛ لا تبدأ بإطلاق النار؛ بل بإطلاق الخطاب، فعندما يُدفع الخطيب أو الإعلامي؛ عن وعي أو جهل أو مصلحة؛ إلى تغذية النعرات الطائفية والعرقية؛ فإنه يؤدي وظيفة تخريبية بامتياز؛ حتى وإن توهم أنه يدافع عن عقيدة أو هوية، فجوهر هذا الأسلوب يقوم على تفكيك الهوية الوطنية الجامعة؛ واستبدالها بهويات فرعية متصارعة؛ بحيث يتحول الانتماء من الوطن إلى الطائفة؛ ومن الدولة إلى الجماعة؛ ومن القانون إلى الولاء الأعمى.

إن استغلال المنابر الدينية في هذا السياق يمثل ضربة مزدوجة؛ لأنه يسيء للدين ويخدم أهداف الحرب النفسية في آن واحد، فحين يُستخدم الخطاب الديني لتبرير الكراهية أو إضفاء قداسة على الصراع الداخلي؛ يُجرَّد الدين من رسالته الأخلاقية؛ ويُحوَّل إلى أداة تعبئة غرائزية، وهذا بالضبط ما تسعى إليه قوى التخريب؛ إذ إن المجتمع الذي يفقد بوصلته الأخلاقية يصبح أكثر قابلية للتلاعب؛ وأكثر استعداداً لتبرير العنف؛ وأقل قدرة على التمييز بين العدو الحقيقي والشريك في الوطن.

مسرح اوسع

أما المنصات الإعلامية؛ فإنها تمثل المسرح الأوسع للحرب النفسية؛ لأنها تمتلك القدرة على إعادة تشكيل الوعي الجمعي عبر؛ التكرار والانتقاء وصناعة السرديات.

إن الإعلام المسيس طائفياً أو عرقياً لا ينقل الوقائع؛ بل يعيد صياغتها بطريقة؛ تزرع الشك والعداء وتعمق الإحساس بالمظلومية وتخلق أعداء وهميين داخل المجتمع، ومع الزمن؛ تتحول هذه السرديات إلى قناعات راسخة؛ ويصبح الانقسام حالة ذهنية مستقرة؛ لا تحتاج إلى محرض مباشر كي تستمر.

 وضمن هذا الاطار، فإن الإساءة المتعمدة إلى رموز شركاء الوطن؛ لا تعتبر فعلاً عفوياً ولا نقداً بريئاً؛ بل إحدى أدوات الحرب النفسية الرامية إلى كسر الروابط المعنوية بين المكونات الاجتماعية؛ فالرموز؛ مهما اختلف الناس حولها؛ تمثل أعمدة نفسية لهويات جماعية؛ والطعن بها بطريقة استفزازية يهدف إلى إذلال جماعي؛ وإنتاج ردود فعل انفعالية تزيد من حدة الاستقطاب، وهكذا تدخل المجتمعات في دوامة من الإهانات المتبادلة؛ حيث يغيب العقل؛ وتُستدعى الذاكرة الجريحة؛ ويُعاد إنتاج الصراع جيلاً بعد جيل.

من المؤكد فإن تداعيات هذا المسار التخريبي لا تتوقف عند العلاقات الاجتماعية؛ بل تمتد إلى بنية الدولة ومفهومها ذاته، فالدولة التي تُستنزف من الداخل عبر خطاب الكراهية تفقد قدرتها على أداء وظائفها الأساسية؛ ويبدأ المواطن بالبحث عن الحماية في الانتماءات الضيقة بدل المؤسسات الوطنية، وعند هذه النقطة؛ تكون الحرب النفسية قد حققت أحد أهم أهدافها؛ وهو إضعاف الثقة بالدولة؛ وتحويلها إلى كيان هش قابل للانقسام أو السيطرة غير المباشرة.

كما أن هذا النوع من التخريب يفتح المجال واسعاً أمام التدخلات الخارجية؛ لأن المجتمعات المنقسمة نفسياً وفكرياً هي الأكثر قابلية للاختراق، فالأعداء لا يحتاجون إلى فرض أجنداتهم بالقوة؛ بل يكفيهم دعم خطاب هنا ومنصة هناك؛ ليديموا الصراع ويضمنوا استمرار الفوضى، وهكذا تُستنزف الطاقات الوطنية في صراعات داخلية؛ بينما تُدار المصالح الكبرى من خارج الحدود.

والأخطر أن الأجيال الجديدة تنشأ في بيئة مشبعة بخطاب الكراهية والتشكيك؛ فتُعاد هندسة وعيها تدريجياً على أساس الخوف والعداء لا الشراكة والانتماء، وعندما تُزرع هذه القيم السلبية في الوعي المبكر؛ يصبح إصلاحها لاحقاً أكثر صعوبة؛ ويغدو مشروع الدولة الوطنية مهدداً من جذوره؛ لا في مظهره فقط.

إن تدمير معايير الوحدة المجتمعية والوطنية لا يتم بضربة واحدة؛ بل عبر تراكم طويل من الكلمات المحرضة؛ والصور المشوهة؛ والخطابات المسمومة التي تبدو في ظاهرها حرة أو دينية أو وطنية؛ لكنها في جوهرها أدوات حرب نفسية باردة، وعندما يعتاد المجتمع على هذا النمط من الخطاب؛ فإنه يفقد مناعته الأخلاقية والفكرية؛ ويصبح الانقسام قدراً يومياً؛ لا خطراً استثنائياً.

منصات مسيئة

لذلك فإن مواجهة استغلال المنابر والمنصات الإعلامية المسيئة، لا يجب أن تُفهم بوصفها معركة تكميم أفواه؛ بل بوصفها معركة وعي وأمن وطني، فحرية التعبير لا تعني حرية التخريب، والدين لا يُختزل في خطاب كراهية، والإعلام لا يكون وطنياً إلا بقدر ما يحمي وحدة المجتمع، فالوطن لا يُدمَّر فقط حين تُحتل أرضه؛ بل حين يُعاد تشكيل وعي أبنائه وفق خرائط أعدائه؛ وحين تتحول الكلمة من أداة بناء إلى سلاح حرب نفسية يمزق المجتمع من داخله.

فهل أنتم منتهون

الله المستعان..


مشاهدات 42
الكاتب قتيبة آل غصيبة
أضيف 2025/12/27 - 12:28 AM
آخر تحديث 2025/12/27 - 2:18 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 122 الشهر 19780 الكلي 13003685
الوقت الآن
السبت 2025/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير