مرسم الفنان.. تحليل من منظور سيكولوجي
قاسم حسين صالح
( مرسم الفنان) ..هو عالمه الذي لا تحده جدران..عالمه الذي يجتمع فيه الضد وضده النوعي..يصرخ الضد فيعلو صوت ضده النوعي، وبأقل ما في الزمن من بعد..يعودان منسجمان تعلو وجه الأول ابتسامة الموناليزا فتمسح من وجه الثاني كآبة فان كوخ. نحن بحاجة في هذا الزمن الذي تعدى ما بعد الحداثة ..زمن التفاهة كما يصفون ،وزمن ارقى ما وصل اليه الفكر بوصف آخرين..الى ان نفهم الفن والفنانيين ، وارى أن علماء النفس المهتمين بالفن..هم افضل من يفهمهم. وأزعم أنني من بين الأقدر عربيا على فهمهم، ليس فقط أنني اول عالم نفس عراقي تسمى جائزة عربية باسمه يتنافس في الحصول عليها علماء النفس العرب، بل لأنني ألّفت خمسة كتب في الفن ( الأبداع في الفن، الأبداع وتذوق الجمال، في سيكولوجية الفن التشكيلي....) .
انتم وأنا ، اظن اننا نتفق مع بيكاسو على ان هدف الفن هو « انقاذ البشرية من التردي في هاوية الشر»..الشر الذي نعيشه ولم يره بيكاسو. ونتفق مع انفسنا بان الفن مؤشر رئيس لحضارة اي شعب اية امّة ، بل ان امّة بلا فن هي امّة بلا حضارة، وان امّة بلا فنانيين مبدعين لا تعدو ان تكون تجمعا من الناس يفتقدون الى واحدة من اهم الحاجات في النفس البشرية هي الحاجة السيكولوجية للجمال.واذا كان الامر كذلك ،وهو كذلك واكثر ، لارتباط الفن بحاجات متأصلة بالنفس البشرية ، فهل يتوجب علينا ان ندرس الفن والفنانين دراسة علمية..ونعني بها دراسة سيكولوجية ؟ ام نتخذ موقف افلاطون وبرجسون بأن نكون متفرجين او مستمعين بما انزلته السماء من وحي والهام ومعجزات؟!
وثمة مفارقة ان هناك فلاسفة وعلماء نفس يرون ان الابداع في الفن موهبة وراثية، في حين يرى ضدهم النوعي ان الابداع هو حصيلة تجربة وخبرة مكتسبة.
وتحار في سيكولوجيا الفنانيين المبدعين ،فيردّ فريق من علماء النفس بالقول: لو كان الامر يتعلق بالوراثة فلماذا رسب ايميل زولا في مادة الادب الفرنسي ؟ ولماذا قصّر طه حسين في مادة الادب العربي الذي اصبح فيما بعد عميده ؟ ولماذا فشل اينشتاين وباسكال وبسمارك وبيكاسو في حياتهم الدراسية؟. وقائمة طويلة من المبدعين والموهوبين الذين وصفوا في طفولتهم بانهم اغبياء او خاملون او غير قادرين على التعلم.
وثمة مفارقة اخرى . ان فريقا من الفلاسفة وعلماء النفس يرون ان الفنانيين- المبدعين بشكل خاص – لابد ان يكونوا مصابين بمرض نفسي او عقلي ،ويذهبون الى القول بأن العبقرية هي حصيلة الجنون، او هي الجنون بحد ذاته.. ولكم في فان كوخ الذي قطع اذنه وبعث بها الى امرأة مومس قالت له يوما على سبيل المزاح ا»ريد ان تقدم لي اذنك هدية «!. فيما يرى الطرف الثاني العكس تماما بكون الفنان حاله حال اي انسان آخر، قد يكون مصابا بمرض نفسي او عقلي ، وقد يكون بصحة نفسية اعتيادية ، وان المرض النفسي او العقلي ليس شرطا في الابداع الفني ، فقد ينتج الفنان المصاب بمرض نفسي او عقلي عملا فنيا مبدعا وقد ينتج الفنان السليم نفسيا عملا فنيا مبدعا .
واختصارا نقول ان الدراسات السيكولوجية التي تميز الفنانيين المبدعين بالفن التشكيلي عن غيرهم من عامة الناس تتلخص بالاتي: ميل خيالي ، ضعف الانا الاعلى ، نقص في الاتزان الانفعالي، الاكتفاء الذاتي، ميل عام للانطواء بعض الشيء،ولا يبدو ذلك في ميلهم للانشراح والمرح ، قلق عام واستعداد عصبي قوي جدا، اكثر بعدا عن معايير الناس و حساسية ثابتة. واذا كانت هذه الخصائص هي محل اختلاف فهناك دراسات اخرى خرجت بخصائص اخرى، فان ما يبدو متفقا عليه هو ان الابداع عملية عقلية تعتمد على مجموعة من القدرات تتميز بعدد من الخصائص اهمها: الحساسية للمشكلات الطلاقة الاصالة الجدة او الحداثة او التفرد ..غير ان الأحداث التي شهدها العراق وبخاصة في السنوات الـ(45) الأخيرة ، اوصلتني الى ما يشبه النظرية: ان الأبداع في العلم والأدب والفن يرتبط بنوعية النظام السياسي( الدانمارك والعراق) مثالين متضادين.