فم مفتوح .. فم مغلق

الشتاء.. عشقي الدائم

زيد الحلي

رحم الله من قال إن فصل الشتاء هو فصل الملوك، فقد ذكر العرب قديما:

(لا يعشقُ الصيفَ إلا من بهِ خللٌ، أمّا الذي يهوى الشتاء فـهـيمُ!)

وما أصدق هذه المقولة، فكلما شعرتُ بقرصات البرد اللذيذة، أدركتُ أن للشتاء سحرًا لا يُدركه إلا من امتلك قلبًا يقظًا وروحًا محبة للحياة.

وفي كل مرة يطرق فيها الشتاء أبواب الذاكرة، أتذكر شهادة الأديب الكبير نجيب محفوظ بحقه، حين قال في أحد لقاءاته الصحفية إنه يفضل الشتاء على الصيف، لأنه فصل النشاط الذهني والبدني، وفيه كتب معظم أعماله، ومشى مع أفكاره على ضفاف النيل، حتى سرى الدفء في أوصاله قبل أن يصل إلى مقهاه الصباحي. تلك الشهادة وحدها كافية لأن تجعل الشتاء فصل الإبداع بامتياز.

هذا هو الشتاء عند المبدعين الكبار، أما عندي، فهو فصل الدفء الداخلي، ورسائل الأمل، ومواسم البهجة الصافية. أحب الشتاء لأنه يعلّمني كيف أبحث عن النور وسط الغيم، وكيف أرى الجمال في قطرات المطر وهي ترقص على أغصان الأشجار الصامدة، فتمنحها حياة جديدة. يا إلهي، كم أعشق تناثر المطر على نافذتي بهدوء، كأنه يهمس في أذني بصوت عذب، مرحبًا بأجمل اللحظات، وداعيًا إلى الفرح، وإلى احتضان كتاب طال شوقي إليه، أتنقّل بين صفحاته، فأشعر بأن الأفكار تنعش الذاكرة وتوقظ في الروح نسغ المحبة والبهاء. وكأن المطر رسالة خفية إلى القلوب المرهقة، يدعوها لأن تغسل أحقادها، فالحياة ومضة، ومن الحكمة أن نعيشها بسلام.

نعم، الشتاء والقهوة والمطر أشياء بسيطة، لكنها تخبرنا أن السعادة لا تكتمل من دونها. فاللقاء في الشتاء مع من نحب يشبه أغنية عذبة مشبعة بالمشاعر، وأجمل لحظات الحب تولد تحت ذرات المطر، لأن الشتاء فصل يعطي ولا يأخذ، يهب الأرض خصبها، ويغسل القلوب مما علق بها من تعب.

وبخلاصة القول، فإن الشتاء فصل الخير والعطاء، به تحيا الأرض والإنسان، وبه يبدأ طريق الربيع والأمل. ولولا الشتاء، لما ازدهرت الفصول ولا اكتملت دورة الحياة. إنه نعمة إلهية تُنزِل الماء المبارك من السماء، ومع برودته ورياحه، يمنح دفئًا لا يشبهه دفء، ويدعو الأسرة إلى الاجتماع، والفكر إلى التأمل، والقلب إلى اليقظة.

أحبك أيها الشتاء… لأنك تُعلّمنا كيف يكون الدفء من الداخل.

Z_alhilly@yahoo.com