الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نوري القيسي… حكيمُ التراث وشيخُ الدرس الأدبي


نوري القيسي… حكيمُ التراث وشيخُ الدرس الأدبي

محمد علي محيي الدين

 

وُلد الدكتور نوري حمودي القيسي في بغداد سنة 1932، وفي أحيائها وحلقات العلم الأولى تشكّلت ملامح ذلك الشغف المبكر باللغة العربية وكنوزها. أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في العاصمة حتى عام 1950، ثم مضى بخطاه الواثقة نحو كلية الآداب والعلوم ليتخرج فيها عام 1954 حاملاً الليسانس في اللغة العربية وآدابها. لكن هذا الاكتفاء لم يكن من طبعه؛ فالقيسي من أوائل الذين رأوا أن الدرس الأدبي لا يكتمل إلا بالرحلة، فرحل إلى القاهرة بحثًا عن نضوج علمي أكبر، حيث نال الماجستير عام 1964 والدكتوراه عام 1967، فعاد إلى بغداد وهو يحمل معه مشروعًا فكريًا يريد أن يزرعه في تربة الجامعة العراقية.

بدأ القيسي حياته العملية معلّمًا في سلك التعليم الثانوي، ثم التحق بجامعة بغداد معيدًا عام 1964، وهناك بدأت صفحته الأكاديمية الحقيقية. كان يتدرج بين المناصب بخطوات هادئة لكنها راسخة، حتى بلغ رئاسة قسم اللغة العربية بين عامي 1974 و1975، ثم تبوّأ عمادة كلية الآداب من 1975 حتى 1978، قبل أن يتقدم ليرأس معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لمدة أربع سنوات ابتداءً من عام 1981، ثم عاد إلى عمادة الكلية مرة ثانية عام 1986 وظل فيها حتى وفاته في خريف عام 1994.

مجمع العربية

نالت مؤهلاته العلمية ثقة المؤسسات الكبرى، فاختير عضوًا عاملاً في المجمع العلمي العراقي عام 1979 وأمينًا عامًا له، وأصبح عضوًا مؤازرًا في مجمع اللغة العربية الأردني عام 1980، وعضوًا في المجمع العلمي الهندي عام 1982، كما نال عضوية اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وشارك في الهيئة الإدارية لنقابة المعلمين، وتسلّم أمانة تحرير مجلة «الأجيال» ومجلة «دراسات الأجيال»، ثم أصبح مديرًا لتحرير مجلة المجمع العلمي العراقي. ولم يكن نشاطه الأكاديمي محصورًا داخل العراق، فقد شارك في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات العربية والعالمية في ألمانيا وباكستان وماليزيا والمغرب والأردن ومصر، وترك أثرًا واضحًا في نشاط المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حتى تُوج نشاطه بجائزة صدام للآداب عام 1989.

ترك القيسي وراءه إرثًا ضخمًا يكاد يفوق قدرة السنوات التي عاشها. فقد أصدر ما يقرب من 133 كتابًا بين تحقيق ودراسة وتأليف، وكتب مئات البحوث في الصحف والمجلات والدوريات المتخصصة، وأشرف على أكثر من خمسين رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه.

 ومن أظهر آثاره: الفروسية في الشعر الجاهلي (1964)، شعر أبي زبيد الطائي بتحقيق دقيق عام 1967، وكتاباه دراسات في الشعر الجاهلي اللذان صدرا في دمشق عام 1972، وجزءاه الشهيرين في شعراء أمويون، وتاريخ الأدب العربي (1979)، والشعر والتاريخ، وشعر الحرب عند العرب، ومحاولات في دراسة اجتماع الأدب، فضلًا عن شعر خفاف بن نُدبة، وكتابه المعروف الأديب والالتزام.

هذه المؤلفات وحدها كفيلة بأن تجعل اسم القيسي واحدًا من أبرز المحققين العرب في القرن العشرين، لكن أهميتها تتضاعف حين نقارنها بما تركه من دراسات نقدية وبحوث تحليلية عميقة.

وقد تناولت جهوده رسائل جامعية عديدة، منها رسالة الماجستير التي شهدتها جامعة سامراء عام 2022 بعنوان جهود الدكتور نوري حمودي القيسي في جمع الشعر وتحقيقه، وهو ما يدل على أن تراثه العلمي متجدد، لا يزال موضوعًا للبحث والتقويم.

أما صورته الإنسانية، فقد جاءت أكثر إشراقًا في شهادة الأستاذ رباح آل جعفر الذي كتب عنه بصدق ومحبة قائلاً: “كان يفتح باب قلبه قبل أن يفتح باب مكتبه، وأعرفه أديبًا مبدعًا يشار له بالبنان، مربّيًا فاضلًا، ورقيقًا كخيط الحرير، وأخلاقه حميدة كأخلاق النخلة. كان يصارع نفسه وتأريخه ممسكًا بأسلحة التراث، يقلب الموازين ويصنع لنفسه مسارًا خاصًا.” في هذا الوصف يظهر القيسي بتمام صورته: عالمًا شديد التواضع، ومربيًا لا يتسلّط بعلمه، ورجلًا يحمل شخصية كبيرة ولكن بلا ضجيج.

تراث علمي

واهتم الباحثون بمنهجه في التحقيق، ومنهم الدكتورة زينب كامل كريم التي قدّمت سمنارًا عنه في مركز إحياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد عام 2021، فأشارت إلى أن طريقته في التحقيق كانت تعتمد على أمانة الأداء قبل تحبير النصوص.

لم يكن من أولئك الذين يجمّلون المتون أو يحاولون تهذيبها لتناسب الذوق الحديث؛ كان يقدّم النص كما هو، يشرح، ويثبت، ويعقّب، ويبيّن ما فيه من نقص أو اختلاف، ويقارن النسخ المقروءة بما لدى المكتبات العربية من مخطوطات أخرى، حتى بلغ في الصرامة حدًا جعله يصوّب أعمال محققين سبقوه حين يجد في عملهم ما يحتاج إلى مراجعة، إيمانًا منه بأن الأمانة العلمية فوق كل شيء.وقد امتد اهتمامه إلى قراءة التاريخ الأدبي قراءة جديدة، تتجاوز الروايات التقليدية، محاولًا الكشف عن حركة المجتمع في النصوص، ورؤية الأدب بما هو مرآة لتغيرات الحياة، لا مجرد محفوظات تُسلَّم دون تمحيص.

 لذلك جاءت دراساته التاريخية أقرب إلى التأمل وإعادة الفهم منها إلى التدوين المباشر، وهو ما منحها قيمة استثنائية.رحل الدكتور نوري حمودي القيسي في عمادة كلية الآداب بجامعة بغداد يوم الأول من تشرين الثاني عام 1994، ورحل كما عاش: في قلب العمل، وبين الكتب، وفي طريق المعرفة الذي لم يغادره يومًا. بقي اسمه في ذاكرة الجامعة العراقية وفي ضمير كل باحث قرأ له أو تعلم على يديه، وبقيت كتبه شاهدة على عالمٍ آمن بأن خدمة التراث ليست وظيفة، بل رسالة تمتد بامتداد الزمن.

الدكتور نوري حمودي القيسي عميد كلية الآداب يفتتح معرض عدي الياسين الشخصي الثاني ويظهر في الصور السيد العميد ومعاون العميد وعدي وبعض الاصدقاء والصديقات كعلي سدخان وميثم وصفاء الضاحي وليلى فريد وغيرهم.

 


مشاهدات 133
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/12/13 - 1:02 AM
آخر تحديث 2025/12/14 - 12:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 61 الشهر 9914 الكلي 12793819
الوقت الآن
الأحد 2025/12/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير