العراقي ما تصير له چارة
عدنان أبوزيد
في قلب كل نقاش عراقي تقريباً، تبرز ملاحظة تتكرر كأنها قدر: العراقي إما أن يُحكم بعقائدي، ديني أو سياسي، يشهر حسام معتقده، أو بقائد عسكري يشهر سيف السلطة.
لا وسطية، لا حلول نصفية، لا تسويات مريحة.
إما كل شيء أو لا شيء، إما الجنة أو النار، إما الولاء المطلق أو الخيانة العظمى.
هذه ليست مبالغة، بل واقع يومي يلمسه كل من عاش في العراق أو راقبه عن كثب.
تجد الشارع العراقي ينتقل من حماسة عقائدية محمومة إلى تأييد ديكتاتورية صارمة في غمضة عين، كأن الشعب لا يطمئن إلا إذا سمع صوتاً صارخاً يأمره بما يفعل، سواء كان الصوت ينبعث من منبر ديني أو من قصر السلطة.
في الثقافة الشعبية العراقية صارت العبارة شائعة “العراقي ما تصير له چارة “. يقولها المواطن والرئيس والمتعلم والجاهل، بنبرة فيها يأس وشماتة معاً، وكأنهم يعلّقون على وحش كاسر لا يُروَّض إلا بالسياط حديدية، وهي إقرار ضمني بأن الوسطية ضرب من الرفاهية بين العراقيين.
انظر إلى تاريخ الدولة الحديثة منذ 1921، تجد أن السلطة لم تستقر يوماً إلا تحت جناح تطرف ما: قومي عنيف، مذهبي ، أو يساري في فترات متقطعة، أو قبضة عسكرية لا ترحم.
حتى الملكية التي بدت معتدلة نسبياً لم تعش إلا بفضل الجيش البريطاني، لتنتهي حقبتها بانقلابات الضباط الأحرار، والقوميين والبعثيين والشيوعيين.
المجتمع العراقي لا يهدأ إلا إذا شعر أن هناك من “يبطش” بمن يخرج عن الخط، سواء كان البطش باسم الدين أو القومية أو الأمن. والنتيجة؟ دولة هشة، مؤسسات مفككة، ثروة منهوبة، وشعب يعيش بين انفجار غضب وانفجار خوف.
التنازع القبلي يزداد، والتخندق المذهبي يتعمق، والانقلابات تتوالى، لأن الجميع يبحث عن اليد الحديدية التي ستجمّعهم، حتى لو كانت هذه اليد ستخنقهم غداً.
كان المتوقع بعد التغيير في 2003، وبعد ثورة الهواتف الذكية والفيسبوك وتويتر، أن ينفتح العراقيون على العالم، ليروا كيف تحل كوريا الجنوبية مشاكلها بالتخطيط والعمل، وكيف تتعايش سويسرا بين لغاتها ومذاهبها الأربعة، وكيف تتفق ألمانيا على حكومة ائتلافية حتى لو كرهت بعضها، لكن العكس هو ما حدث تماماً. استُثمر الانترنت في نشر خطاب الكراهية المذهبية بجودة عالية، وصار الشيخ المتشدد يبث دروسه مباشرة إلى ملايين المتابعين، وتحولت صفحات أبناء العشيرة الفلانية إلى جيوش إلكترونية.
الوسطية في العراق اليوم ليست ضعيفة فحسب، بل متهمة.
من يدعو إلى الاعتدال يُتهم إما بالعمالة أو بالزندقة، والنتيجة أن بذوره تبقى في أرض قاحلة، تنتظر جيلاً جديداً يملك شجاعة أن يقول: لا نريد المتطرف العقائدي، ولا فرعون، نريد فقط دولة.
حتى يأتي ذلك الجيل، سيظل العراقيون يدورون في الحلقة المفرغة نفسها: إما متزمّت يحكم بعقيدة متطرفة، أو ديكتاتور يحكم بسيف.