حين تتحول الديموغرافيا إلى ملف أمني وهندسة سياسية محكومة
حيدر صبي
في بلدٍ لم يُحدّث بيانات سكانه منذ أكثر من ثلاثين عاماً ودون ان يكون هنالك تخطيط للمستقبل الذي يقوم على حقيقة حضور لغة الارقام بدل تثبت لمعادلات السلطة ومخرجاتها الاقصائية فقط .
فهنا قد استبشرنا خيرا وحين اجراء التعداد العام للسكان الذي كشفت عنه وزارة التخطيط العراقية مؤخراً والذي للاسف عرض فقط صورة غير متوازنة للتمثيل النيابي ، اذ تشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة العراقيين من العرب السنة وحدهم تقارب 42% من إجمالي السكان ، ينتشرون على امتداد جغرافي تشكل أكثر من نصف مساحة البلاد ، ومع إضافة السنة من الكرد والتركمان تتضح ملامح أغلبية وطنية عددية غير قابلة للجدل ، مع هذا تمّت صياغة معادلة سياسية تنتج أغلبية برلمانية شيعية عبر توزيع غير عادل للمقاعد بعد ان جرى تحويل قانون الانتخابات وآليات الدوائر إلى أدوات اقصاء سياسي قبل التصويت بينما كان الهدف من الاجرائي هو تنظيم آليات تقنية لانجاح العملية الانتخابية .
تفاوت في قيمة الأصوات
في المحافظات السنية والمختلطة يصل عدد السكان لكل مقعد نيابي إلى ما بين 157 و191 ألف نسمة ، بينما ينخفض هذا الرقم إلى 87 ألفاً فقط في المحافظات الجنوبية ومعنى ذلك أن قيمة الصوت الانتخابي في بعض المحافظات تُعادل ضعف قيمة الصوت في محافظات أخرى ذات حجم سكاني أكبر ، هذا التفاوت لا يمكن اعتباره خللاً فنياً بل يمثل إعادة هندسة مسبقة للنتائج السياسية .
الأخطر أن هذا الخلل لم يحدث بشكل عرضي بل جاء نتيجة منظومة متكاملة تشمل " تعطيل التعداد السكاني الشامل لسنوات طويلة والتحكم في تشكيل المفوضية الانتخابية وتحديد عدد المقاعد والدوائر ومن ثم تحويل مفهوم الأكثرية السياسية الى أداة لإقصاء الأكثرية الديمغرافية الفعلية " .
دلالات الإختلال
لمّا كانت محافظة نينوى التي تضم أكثر من 4.3 مليون نسمة تُمنح 34 مقعداً فقط بدلاً من 48 وفق المعايير العالمية ومحافظة الأنبار (2.2 مليون نسمة) تحصل على 15 مقعداً بدلاً من 20 وينسحب ذلك على صلاح الدين وديالى وكركوك ، وفيما الجنوب مثل محافظة ذي قار الضّامة ل (قرابة 2.5 مليون نسمة) تمتلك 19 مقعداً مقارنةً بأربيل (2.6 مليون) التي لا تملك سوى 16 مقعداً ، فان تلك المفارقة لا تجسد عدم عدالة فحسب بل هي اختلالات ذات تأثير تشير الى تعمّد إعادة توزيع النفوذ السياسي عبر هندسة قانونية لا ديمغرافية .
الاختلال لا يقف عند حدود البرلمان فحسب بل يمتد إلى مؤسسات الدولة فالسنة يشغلون 6 وزارات فقط من أصل 23 ولا يتجاوز تمثيلهم 13% من الوكلاء والمدراء العامين ، و15% في الأجهزة الأمنية ، وأقل من 12% في السلك الدبلوماسي . إنها أرقام لا تعكس نظاماً ديمقراطياً اريد له النجاح قدر انها مثلّت انموذجاً في الادارة الهزيلة يعيد إنتاج المركزية الصلبة داخل دولة اريد لها ان تكون ديمقراطية ! .
واقع يشوبه الخطر
تكمن خطورة هذا الواقع في أن العراق ينتقل من مرحلة الاستقطاب الطائفي الى مرحلة هندسة السلطة وفق اعتبارات أقرب الى مفهوم التحكّم السياسي الاستراتيجي فالصراع لم يعد يعتمد على من يفوز بالانتخابات بل على من يُسمح له أولاً بالدخول الى معادلة التمثيل النيابي.
إن إعادة التوازن في العراق تبدأ من خطوة واحدة تؤسس الى اعتماد التعداد السكاني وفق الأسس العلمية لتصبح معياراً لتوزيع المقاعد النيابية وفي صياغة الموازنات والتخصيصات الحكومية ، لا وفق معايير التوافق والهيمنة السياسية ، وغير ذلك سيبقى الحديث عن الإصلاح والانتخابات والديمقراطية مجرد غطاء لنظام توزيع نفوذ لا نظام مؤسساتي لتداول سلطة الحكم هدفه الاقصاء والتهميش .
لقد حان الوقت لأن تُدار الدولة وفق منطق وظيفي عادل ، لا وفق منطق الغلبة الانتخابية المخطط لها . فكما أن العراق بحاجة إلى إعادة بناء النظام السياسي ، هو بحاجة قبل ذلك إلى إعادة تعريف المواطن كمصدر للشرعية ، لا كمُعادلة رقمية مصطنعة قابلة لإعادة التدوير في كل كل دورة انتخابية .