بطل من هذا الزمان
كامل عبدالرحيم
أتحاشى المرور من هذا السوق، أخجل من نظرات بائع القرطاسية والذي يبتدئ دكانه هذا السوق التراثي القديم، فالرجل يقف منتظرا من يمر في سوقه لعله يشتري شيئا فسوقه رديف لسوق السراي المجاور والمختص ببيع مواد القرطاسية، أتخيله يعترض طريقي صارخا بي لماذا تمر من هنا ولا تنوي الشراء، وفي جيبي رد مناسب فلقد كنت زبونا لدكان أو اثنين من محلات تجليد الكتب وهذا يجعلني مشتركا فيه.
سوق من بقايا زمن قديم قد يعود للدولة العباسية وقد يكون بمثابة) خان) يربط بين جامعين، يقع كلاهما على شاطئ دجلة ولكل واحد منهما طلته الخاصة وقد يكونان جامعا واحدا فيما مضى.
دكاكين هذا السوق لحرف تقاوم الانقراض وأخرى تحاول التكيف، في الصيف يوفر ظلا ونسيما باردا يتسلل من بين فتحات الطابوق العتيق، دكان وربما ثلاثة لتجليد الكتب، صمد واحد منهم ويديره مجلد محترف بجسد مصارع وطول يحاكي تلك الأشجار التي منها نستخرج الورق قبل أن نكتب عليه آلامنا وآثامنا وأحلامنا، أكثر من دكان امتهن صناعة لوحات التعريف الخاصة بالمسؤولين أو المديرين أو هيئاتهم و وظائفهم، لوحات برونزية يلتمع لونها الذهبي وهو يحتضن الحبر الأسود لتلك الأسماء، محل أو اثنان يختصان ببيع وتجارة الكتب التجارية، لا يمكن وصفهم بغير ذلك وغيرهم امتهن سراجة الجلود ومن هنا اكتسب اسمه كسوق للسراجين.
بالأمس وأنا أدخل السوق بسرعة هاربا من نظرات بائع القرطاسية استوقني دكان) دكاكينه بالمناسبة تشبه القبور المقوسة (ويديره رجل كبير السن قد تجاوز السبعين ربما وقد استحدث مهنته الجديدة والتي يعمل عليها بهمة وعلامات الحبور تبرز من بين ثنايا تجاعيد وجهه المتعب.
مهنته المبتكرة هي تصليح حقائب السمسونايت الكلاسيكية بحجمها المنفوخ وأرقامها السرية وأقفالها الفضية، وعمله كما رأيت بسرعة هو إعادة تشفير تلك الأرقام وإصلاح الأقفال، بملابسه النظيفة يتنقل بين (جثامين (أربع أو خمس حقائب أغلبها باللون الأسود، يلامس بكرة أرقامها السرية وكأنه يمسد طفلا أو حفيدا له وربما يقترب منها بغريزة مقامر يهم بالمغامرة بآخر ما يملك وقد تكون هذه مهنته الأخيرة أملا بلقمة حلال، بطل في زمن يسود فيه الحرام فبدا بسنينه السبعين وأناقته المعلبة ونظارتيه، نظارتا المحاسب وهو يحفظ عن ظهر قلب أسرار وأرقام حساباته.
ما منعني من احتضانه بالدموع التي ترقرت عميقا داخلي هي نظرات بائع القرطاسية وهو يحصي العابرين مثل جابي الضرائب، و قبيل مغادرتي مصلح حقائب السمسونايت كان قد نجح بإصلاح واحدة منها فأدار منتشيا بكرة أرقامها مثلما يفعل فارس بمسدسه القديم فيلقمه ويديره بفخر وقوة، قلت له في نفسي، وأنت بطل لهذا الزمن حيث شح الابطال واندرست البطولة.