قصة قصيرة
سيمفونية الاصدقاء الاربعة
حيدر علي الجبوري
قد تأخرتم قليلاً بحساب الزمن , زمنكم . أمّا نحن الأربعة فالزمن شعاع وفق حساباتنا. أربعة لا أكثر وجدتم بقاياهم عالقةً بين طيّات الحرب الجائعة. كل حربٍ جائعة, وإذا لم تلق من تأكلهم ذهبت لمكانٍ آخر لتسدَّ غريزتها. أربعه شبّان قادهم القدر منذ يومهم الاول في المدينة, ثم إلى الجامعة نفسها ثم الى الجبهة حتى قال عنّا أهل مدينتا بأننا النسخة الرباعية الاسطورية . بينما قال عنّا والدي الذي لم أره منذ ثلاثة وثلاثين عاماً بأننا السمفونية الرابعة . وبالمناسبة, كان أبي عازف كمان جيد ينشط في ليالي الشتاء. كنت أسمعه يعزف منفرداً في غرفته ألحاناً لأغانٍ لم أعرفها, لكنه كان يحب أمّ كلثوم وفريد الاطرش . و أغلب الظنّ أنّه كان يعزف ألحانه منها .
ذات أصيلٍ بارد , في مقهى المدينة الوحيد كنا نتحدث عن الالتحاق إلى الجبهة, نذكّر بعضنا باحتياجاتنا . ومن خلال زجاج واجهة المقهى المطلّة على الشارع , رأيت أبي مارّاً من هناك لوجهة لا أعلمها. ذكّرني مروره بما أسمانا, اخبرت نائل واسماعيل وذاكر بأنّنا في نظر ابي سيمفونية, نحن قطعة جمالٍ في العلاقة الأزلية التي لم تشوبها شائبه منذ الطفولة وإلى هذه اللحظة. التفت الثلاثة إليه وهم يشاهدونه يبتعد ، يتلفّت إلى اليمين وإلى الشمال لاجتياز الشارع. بدا أنيقاً ببذلتها الرسمية سوداء اللون تمرُّ عبرها خطوطٌ بيضاء رفيعة. نظّارته الطبية ذات الاطار البلاستيكي البني العريض , تسريحه شعره القديمة وفق منظورنا , شعر المرتفع وزلفٌ أشيبٌ كثيف يتجه من اسفل جانبي الراس .هكذا كنت أراه. بينما رآه اسماعيل بصورة الموظف الجاد الذي لا يتنازل عن دقيقة من وقته في العمل . أمّا نائل , فقد قال عنه بأنّه متحضّر جداً ويفهم ما يدور في الحياة . ذاكر لم يقل رأيه بل اقترح بالذهاب إليه هذه الليلة و إسماعنا وجهة نظره عبر آلته الموسيقية, فنحن سيمفونية ولنا الحق في أن ننال حقوقنا في التأليف. ضحكنا حينما ذكر مسألة حقوق التأليف, لكننا وافقنا على الالتقاء هذه الليلة. أو قولوا أنتم : تلك الليلة البعيدة التي ما زلت أراها بعيني وروحي , بمطر السنين المتسرب إلينا , الطين الذي صار يتكلّس علينا , بصوت ذاكر وهو يطلق أنينه الأخير على شكل تلك المعزوفة.
في الموضع التقينا احتماءً من رشقات المدفعية والقصف بكل أنواع الأسلحة وأزيز الرصاص .كان الظلام مختلفاً كثيراًعن ظلام كل الليالي , الارض تهتزُّ, تنبش القذائف سطحها وتنثره مكونة حفراً جديدةً واشلاء من اجساد الجنود... لم يحن الدور لنا بعد بالخروج والاشتباك , ثمة عشرات الخنادق يقيم فيها جنودٌ مجهّزون. تختلف نسب الخوف في قلوبهم , منهم من لم يحتمل وخرج هرباً من ارتعاش الارض و ارتعاش البعض من اقرانه فالتهمته النيران الصديقة والمعادية على السواء . لا أخفي على أحد وانتم تقرأون الآن من هذا الدفتر الصغير والمعنوَن "عابرٌ نحو أزمنةٍ أخرى" لا أخفي خوفي مما يتخيّله عقلي من جحيم الخارج, صريخ الأسلحة, الأرض المزلزلة, استغاثة بعض الجنود الجرحى المتروكين لوحدهم , الأوامر الارتجالية تبعاً لتغّير أحوال المعركة, طلب التعزيزات , موقف العدو ... كل شيء يدعو للخوف كلّما أضاءت احدى انفجارات القنابل مساحات السماء والمكان برمته أخطف ببصري لأحد أصدقائي , أربع مرات أرى فيها ذاكر متكئاً على الجدار مغمض العينين صامت صمت الموتى . كيف لا, فتلك طبيعته منذ اليوم الاول الذي وعيت فيه وذاكر هو ذاكر : صامت يحاول فهم ما يدور, يستمع للجميع باهتمام و إذا نطق فيقول ما يُصمِت الجميع . أذكرُ في الصف الاول المتوسط كان مُدرّس الرياضيات يشرح الدرس بكل جهد , يسأل بين كل عمليةٍ حسابيةٍ واخرى عما قاله , فيجيبه أحياناً بعض الطلاب عن سؤاله. كان المدرّس يضع علامةً في ذاكرته عمّن يسأل أو لم يفهم أومن يطلب إعادة الموضوع . إلّا ذاكر , فلم ينل أيّ علامةٍ تدلّ على فهمه أو عدمه , ولا دلالة على ذكائه أو غبائه , حتى اللحظة التي سأله المدرس فيها :
-ذاكر أنت معنا أم في مكان آخر ؟
-في مكان آخر يا استاذ .
لقد غّير ذاكر كل شيء بتلك الإجابة. كان المدرس يتوقّع صمتاً من نوع جديد , أو إجابة صبيٍّ دبلوماسية . وبطبيعة الحال, المدرس كان أذكى بكثير, إذ لم ترهقه شروحات الرياضيات , بل زادت من حكمته كما قال لنا في نهاية الدرس الذي تحوّل من مادة الرياضيات إلى مادةٍ انسانيةٍ صرفه , فقد طلبَ من ذاكر اصطحابه إلى المكان الآخر الذي كان فيه . رفض ذاكر واعتبر المسألة شخصية . ضحك المدرس من تلك الكلمة الفضفاضة على فكر صبي في الأول متوسط ثم قال له : إذن , عُد الى المكان الذي نحن فيه .ذاكر يصمت . ليلتحق بالمحادثة اسماعيل والذي كان بمثابة ناطق بسم صديقه : أستاذ, إنّ ذاكر له مزاج لم يقو أبويه على توجيهه ... ما السبب في ذلك؟ حينها أكمل المدرس بقيه الدرس بقوله لنا في أن الله يخلق الانسان وفق طبيعة متفاعلة مع المحيط , ومهما حاولنا صناعة إنسان كما نرغب , سيجتهد ذلك الانسان بصناعة نفسه وفق معادلات الحياة التي يتّفق معها على النتائج ؟
اشاهد ذاكر الآن وهو يرحل بصمت الى أماكن أخرى و أزمنةٍ أفضل مّما هو فيه , يشاهد شكله الجديد , خوذة حديدية اضافت تفاصيل جديدة على رأسه, هيأة عسكريه قاسية , جعبة رصاصٍ ثقيلة تنام على صدره , شاربه السميك الاسود غطّته أتربةٌ و أحالته بصورة رجلٍ خمسيني محترم. جسده النحيل لا يمكن الاستنتاج منه أمستعد لطارئ المعركة أم لا ...هممتُ أن أسأله عن المكان الذي هو فيه وفق مخيّلته , غير أنّ اسماعيل كان قبلي يشدّ انتباهه إليه وسبقني بالسؤال:
- أين أنت يا ذاكر؟
-تريدون الحقيقة ؟
-نعم مؤكد ... أجبته .
-كنت أستمع لمعزوفة العم أبو رافد وأحلّل تلك السيمفونية محاولاً ايجاد معناها؟
- أتعتقد بأنّها كانت رسالة؟
سأله اسماعيل
-بل كانت رؤية العم لنا ,أخفى خوفه علينا لكنه لم يتمكّن من اخفاء حزنه لأجلنا كما لو أنّه رأى نهايةً ما لنا .
أغمض عينيه , ثم بدأ يهمهم بالمعزوفة بصوتٍ خافتٍ كنا نسمعه نحن الأربعة كما لو كنا هناك في غرفه الجلوس في داري , أتذكّر دخول أبي علينا وهو يحمل كمانه . صافحنا جميعاً ثم وضع كمانه على الأريكة بجانبه وشرع بحديث عن الحياة وتعليماتها , عن الاشياء الجميلة التي يمرّ بها الانسان دون أن يشعر بها , عن العالم المتغيّر والسياسة والحرب . كان قد وجد استثناءً ممّيزاً تجلّى على هيئة قدر طاف كهالة ٍ حولنا نحن الأربعة . حدّثنا عن طفولتنا التي لم نعِ على افعالنا فيها , وعن أحاديث غريبة و مضحكه بالوقت ذاته : في صباح جمعةٍ صيفيةٍ ونحن في السنه الثالثة من عمرنا ودون شعور أي من أحدٍ من ذوينا , كنّا قد صعدنا الى سطح الدور الثاني لبيت جدّي واستدرجنا الفضول والجهل على التسلّق بالسور المحيط للسطح لأخذ نظرةٍ فاحصةٍ للمدينة من ارتفاع سبعه امتار. وإذا بانزلاق قدم أحدنا من الجدار كاد ان يؤدي بحياته من الأعلى , غير أنّ تدخّل الثاني منع من ذلك , الثاني منا لم يحتمل فتدلى هو الآخر ليمسك به الثالث الذي لم يستطع التمّسك بثقل الاثنين ,فكنت الرابع منهم صاحب الامتياز . كان مشهد السلسلة الطفولية المتدلّية مرعباً لمن رآه , لكن سرعه الانقاذ ممن شاهدهم كانت هي المعجزة في إنقاذ أربعة متسلّقين محترفين...
لم يبادلنا الابتسام لتلك الحادثة, بل كانت فيه رغبة القصّ حول كل المُلفتات التي مررنا بها, الإصرار على لم شملنا في صف واحد طيلة ست سنوات في الابتدائية, المستوى المتوسط في الدراسة الثانوية, الاكمال بمادة اللغة الانجليزية في الامتحانات النهائية للصف الثالث المتوسط , القبول في جامعه بغداد في السنة ذاتها بكليات اختلف القدر فيها معنا هذه المرة ولم يمنحنا القدرة الخارقة بجمعنا . والحقيقة, لم يعلم أبي أسراراً اخرى , عندما دخل الحب عالمنا كانت المكاشفة الاكبر بيننا , فبينما كنت مع اسماعيل ونائل عند باب نادي كليه الآداب, فوجئنا بذاكر مع أجمل طالبة في الكليّة , يتبادلان الابتسام والسير بخطواتٍ مليئة بالحب حتى جلسا تحت ظل شجرة برتقالٍ كبيرة . يسافران بنظراتهما في عيني بعضهما . قال اسماعيل
لا أخفيكم , كانت النيّة مفاتحتها بحبٍّ لي .
انضم نائل الذي كان قد عدّ لها رسالة حب واعدة.
أمّا أنا, فقد احتفظت لنفسي ليالي التفكير فيها وأحلاماً عن مخططات مستقبلية مع تلك الجميلة. قلتُ لهما : ليكونا أيقونة الحب الشفيف لنا إلى آخر يوم في حياتنا و لتكن سعادتنا مع بعض من بعض سعادتهما .
كانت الحرب هي آخر ما تحدث أبي به معنا وهي من اسوأ موجودات الحياة, وهي قرين الدمار والأسى والموت ثم بدأ بإسماعنا معزوفة كنت استمع من خلالها لكلامٍ يعجز عن قوله , عن أيامٍ ماضية, أيام قادمة , عن أمانٍ لآبي لو أنّ الحرب لا وجود لها .
في وميضِ صارخٍ أحمر اللون , شاهدنا بعضنا كما لو أنّ اللحظة الحاسمة قد دنت , نهض نائل في محاولة استكشاف ما يحصل خصوصاً وأنّ لا أوامر حتى الآن بالاشتباك منعه ذاكر بعد أنّ فتح عينيه وملامح جديةٍ لم نعهدها على كلامه . قذيفةٌ قريبة من الخندق اغلقت نصف فتحه الخروج وكادت تهدّ السقف علينا استنفرت نائل بالاندفاع الى الخارج . سوى أنّ الموت كان بانتظاره . إذ لم يخرج نصف جسده حتى اخترقت شظيةٌ عنقه وأردته في الحال ... هكذا كانت تلك اللحظات , رحيل روحٍ بلا مقدمات حتى كان الجسد العالق ما بين داخل الموضع وخارجه , ما بين الموت والحياة , يبعث لنا افكاراً بأن نسحبه نحونا , إلينا , لكنه كان عالقاً لسبب نجهله في الخارج . شرع اسماعيل بتوسيع الفتحة وخرج لصديقنا , بل ونجح في إعادته الينا , لكن , بيدٍ مبتوره هو الآخر . لم يبدِ اهتماماً لإصابته بقدر ما كان مصدوماً وهو يرى نائل بلا حياة.
كان لدينا من الماء ما يكفي لغسل وجهه المعبّأ بالطين وإبعاد الدم عن جسده حتى بدا غير نائل الحي ولا الميت , إنّه الجميل الهادئ الوديع أسمر البشرة ذو الابتسامة الدائمة. كانت شموع الحالات الطارئة موقدة بيننا استخدمناها في تغيير نائل واسعاف ذاكر حتى موعد نزول القذيفة التي محت فتحة الموضع بطنٍّ من الطين والاشلاء والحديد المتشظّي , حاول اسماعيل انشاء فتحة دون جدوى , بدأ المطر يتسّرب إلينا , السقف مثقل بفعل الاليات التي تمرّ من فوقنا ولا نعرف لمن تعود .
مثل طلبٍ أخير قال لي ذاكر بأن اكتب قدر الامكان مختصر حياتنا , أكتب حتى آخر ومضة ضوء من شموع الطوارئ . لبّيت طلبه , كتبت لساعتين او أكثر بقليل ولم الحظ اختفاء صوته وهو يؤدي سيمفونية الاصدقاء الأربع ظّناً منه بأنه قد صمت كعادته . كان الموت بجانبه وبجانب نائل , حتى انتقل الى اسماعيل خلسةً , مختنقاً بالعتمة والحصار والعزلة.
ها أنتم تجدونا بغير ما كنّا قبل أكثر من ثلاثين عاما ... أعتقد بأنّها كافيه لتغيير شكل الانسان حيّاً او ميتا...