حين تصبح الثقافة مروءة
عبدالكريم الحلو
حين تصبح الثقافة مروءة،
تتحوّل المعرفة من كلماتٍ محفوظة إلى ضميرٍ حيّ يسكن القلب قبل العقل. لا يعود المثقف عندها باحثًا عن مجدٍ شخصي أو شهرةٍ زائلة، بل فارسًا يحمل سيف الحكمة في وجه الزيف، ويُضمد بجناحي الوعي جراح وطنٍ أنهكته القسوة.
الثقافة حين تمتزج بالمروءة
تلد إنسانًا يرى في الكلمة عهدًا،
وفي الرأي مسؤولية، وفي الاختلاف احترامًا.
عندها فقط يغدو المثقف مرآةً أخلاقيةً للمجتمع، لا يبيع صوته لمن يدفع أكثر، ولا يصمت حين يكون الصمت خيانة.
إنها لحظة النبل الإنساني في أبهى تجلياته، حين يصبح الفكر شرفًا، والقلم موقفًا، والإنسان كتابًا مفتوحًا من الصدق والعطاء
اذن هل نحن طبقة الكتاب والادباء والشعراء مثقفين ، أم لا ؟
الإجابة ليست بنعمٍ أو لا،
لأن العلاقة بين الأدب والثقافة معقّدة ومتداخلة.
الأديب أو الشاعر أو الكاتب
ليس بالضرورة ان يكون مثقفًا،
كما أن المثقف قد لا يكون أديبًا.
فالأديب يمتلك ملكة التعبير وجمال اللغة والقدرة على خلق الصورة والتأثير الوجداني، أما المثقف فهو من يملك رؤية فكرية شاملة للعالم، ووعياً نقدياً بالتاريخ والمجتمع والإنسان.
قد نجد شاعرًا مبدعًا في صوغ المشاعر، لكنه سطحيّ في الفكر والرؤية،
لأن الشعر لا يصنع الوعي بالضرورة،
بل الجمال.
وفي المقابل، نجد مثقفًا لا يكتب شعرًا ولا رواية، لكنه يشكّل الوعي العام وينقد الواقع ويؤسس للأفكار الكبرى التي تُغذي الأدب نفسه.
الخلط بين الاثنين جاء من أن بعض الكتّاب الكبار جمعوا بين الاثنين معاً، مثل:
- طه حسين الذي كتب الأدب والفكر والنقد،
- والجاحظ الذي مزج اللغة بالفلسفة،
- وأدونيس الذي جعل الشعر منبرًا للفكر والتمرد.
لكن في زمننا، كثير من الكتّاب يكتبون بلا وعي ثقافي حقيقي،
فيتحول الأدب إلى استعراض لغوي بلا رسالة،
والشاعر إلى مُغنٍّ بالكلمات لا مفكرٍ بها.
إذن، يمكن القول إن:
كل مثقف يمكن أن يكون كاتبًا،
لكن ليس كل كاتب مثقفًا.
وكل شاعر قد يملك وجدانًا نبيلاً، لكنه يحتاج إلى وعيٍ عميق ليصبح مثقفًا بحق.
فالمثقف هو الذي يرى أبعد من النص، ويكتب لا ليُعجب، بل ليُغيّر
ليس كل من كتب حرفاً كان مثقفاً،
ولا كل من زيَّن عباراته بالبلاغة عَبَرَ ضفة الوعي.
فالأدباء كثيرون، والكتاب أكثر، لكن المثقفين قِلّة… أولئك الذين يمشون حفاةً على شوك الإدراك، ويُضيئون الدروب بألم السؤال لا بترف الإجابة.
الثقافة يا صديقي ليست رفوف كتبٍ مُغبرة، ولا معلومات تُساق في المجالس لتدل على الاطلاع.
الثقافة موقف.
هي شجاعة النظر في المرآة دون خوفٍ من الوجه الذي قد يظهر،
هي أن تقول “لا” حين يصفّق الجميع لـ “نعم”،
وأن تحيا الفكرة كما لو كانت قَدَرك لا هواك.
كم من كاتبٍ يُتقن اللغة، لكنه يجهل روحها،
وكم من أديبٍ يُطربنا بعطر الكلمات، لكنه لا يُحرّك فينا وعيًا ولا ضميرًا.
أما المثقف، فهو من يختار أن يكون شاهداً لا تابعاً،
أن يُؤلم ليوقظ، لا ليُرضي.
لكن ما جدوى الثقافة إن فقدت روحها؟
ما نفع الوعي إن خلت القلوب من الإتيكيت الإنساني،
ومن تلك الرهافة التي كانت تسكن نظرة الجدّات وابتسامة الآباء؟
كان الناس يوماً يمشون على الأرض بخطى من حرير،
يتبادلون الكلمات كما لو كانت هدايا،
ويُصغون إلى بعضهم بقلوبٍ صافية.
كانت الفروسية آنذاك أخلاقًا قبل أن تكون بطولة،
والمحبة قانونًا قبل أن تكون عاطفة.
اليوم، غابت المروءة خلف شاشات الضوء،
صار الذوق ترفًا، والاعتذار ضعفًا، واللطف يُقابل بالريبة.
صرنا نحيا زمنًا تتباهى فيه الألسنة على حساب القلوب،
وتختنق فيه الفروسية في زحمة الضجيج.
فأين هو المثقف في هذا المشهد؟
أهو ذاك الذي يكتب ليُصفّق له الناس،
أم الذي يكتب ليُذكّرهم بأنهم نسوا كيف يحبّون؟
إن المثقف الحقيقي ليس فقط من يُعلّم الناس كيف يُفكرون،
بل من يُعيد إليهم أناقة التعامل، ودفء المودّة، ورهافة الذوق.
فالثقافة بلا محبة عقم،
والمعرفة بلا ذوق جفاء،
والفكر بلا فروسية خواء.
لنُعد إلى أرواحنا أناقتها الأولى،
إلى الكلمة التي تشبه المصافحة،
وإلى الخُلُق الذي يُنقذ الإنسان من تحجّره.
ولنؤمن أن الأديب الحقّ هو من يجمع بين الفكر والرقي،
بين عمق الكلمة ولطف السلوك،
بين حرارة العقل ودفء القلب.
فحين يلتقي الأدب بالوعي، تولد الثقافة،
وحين تتصافح الثقافة مع المحبة، تُبعث الفروسية من جديد.
وفي نهاية الطريق،
لا تُقاس المروءة بما نملك من سلطةٍ أو مال، بل بما نمنح من ضوءٍ حين يعمّ الظلام.
ولا تُقاس الثقافة بما نحفظ من كتب،
بل بما نزرع من وعيٍ في أرواح الآخرين.
فالمروءة روح الثقافة،
والثقافة وجدان المروءة
كلاهما جناحان يرفعان الإنسان فوق وحل الأنانية وضجيج الجهل.
وحين يلتقيان في قلبٍ واحد،
يولد الإنسان الحقيقي:
ذاك الذي يمشي بين الناس نورًا،
ويترك أثرًا لا يُمحى،
لأن الكلمة عنده خلق،
والموقف دين،
والكرامة عنوان الوعي الحقيقي.