محنة الفكر السائد
محمد حمزة عبيد
حين تتحول الفكرة من وسيلةٍ للبحث إلى قيدٍ على التفكير، يولد ما يُسمى بـ «الفكر السائد»؛ ذلك الفكر الذي يُخدّر العقول باسم الاستقرار، ويكبل الإبداع باسم الإجماع. في هذا المقال، نحاول أن نزيح الغبار عن أقدس ما في الإنسان: حقّه في أن يفكر بحرية، حتى وإن كان وحيدًا في وجه الجموع.
في كل عصرٍ يظن الناس أنهم بلغوا ذروة الوعي، وأن ما يؤمنون به هو الحقيقة التي لا يطالها شك. غير أن التاريخ لا يملّ من السخرية من هذا اليقين، إذ يكشف مع كل جيل جديد أن ما بدا “فكرًا سائدًا” لم يكن سوى ظلّ مرحلة، أو صدى لزمنٍ لم يجرؤ أحد على تجاوزه.
ان الفكر السائد ليس دائمًا فكرًا صحيحًا، لكنه فكرٌ قوي، لأن الجماعة تمنحه الشرعية.
يولد من الخوف أكثر مما يولد من الحكمة؛ يخشى التجديد كأنما التجديد خيانة، ويقدّس الماضي كأن في الزمن الأول وحده يسكن الله والعقل والحق.
وحين يتجمد الفكر، يتحول إلى سلطة غير مرئية، تصادر حرية التفكير باسم “الإجماع”، وتخيف الناس من السؤال باسم “الثوابت”.
كم من عقل لامع أُخمد صوته لأن فكرًا سائدًا اعتبره تهديدًا!
وكم من فكرة عظيمة وُئدت في المهد لأنّ المجتمع لم يحتمل أن يرى نفسه في مرآة جديدة!
إن محنة الفكر السائد تكمن في أنه لا يرفض الفكرة الجديدة لضعفها، بل لأنها تُجبره على مواجهة زيف قوّته.
يُقال إن أخطر أنواع الرقابة ليست التي تفرضها السلطة، بل التي يمارسها الناس على أنفسهم حين يكرهون من يختلف عنهم.
فالمجتمع الذي يلعن المختلف، يبارك الجهل من حيث لا يدري.
وحين تُصبح المجاملة بديلاً عن الصدق، يُدفن الإبداع تحت ركام العادة، وتُهاجر العقول الحرة إلى صمتها.
الفكر السائد يخلق راحةً زائفة، لأنه يُغني عن التفكير.
يعطيك الجواب قبل أن تسأل، والاعتقاد قبل أن تختبر، والاتجاه قبل أن تختار.
لكنه في الوقت نفسه يسلبك أجمل ما في الإنسان: القدرة على الدهشة.
فما قيمة إنسان لا يندهش؟ وما معنى حياةٍ تُعاش في إطار المألوف دون أن تخترقه شرارة السؤال؟
إن الأمم لا تتقدم حين تكسر قيود الحديد، بل حين تكسر قيود الفكر.
ولا تنهض المجتمعات بالشعارات، بل بقدرتها على الشكّ البنّاء، الذي يحوّل المقدّس من صنمٍ إلى معنى، والتاريخ من جدارٍ إلى جسر.
الفكر الحرّ لا يهدم الثوابت، بل يطهّرها من الخوف، ويمنحها حياةً جديدة في ضوء المعرفة.
يا أبناء هذا الزمن المزدحم بالضجيج،
لا تجعلوا الرأي العام مرشدكم الوحيد، فالرأي العام كثيرًا ما يقود إلى الهاوية بأقدامٍ مطمئنة.
ولا تخافوا أن تكونوا أقلية، فالحقيقة في بداياتها كانت دائمًا صوتًا وحيدًا حيث كان نبينا محمد (ص) صوتا فريدا في صحراء الجزيرة العربية.
إن محنة الفكر السائد ليست قدرًا أبديًا، بل امتحانٌ متكرر للعقل الإنساني.
وسيبقى الأمل قائمًا ما دام في كل جيل من يجرؤ على أن يقول:
“ربما كان الخطأ في المسلَّمات، لا في الأسئلة.”
فحين نجرؤ على التفكير خارج السرب، نمنح العقل جناحيه من جديد، ونفتح للإنسان نافذة على المستقبل الذي يليق به.