الإمام الحسن بن علي عليه السلام: فيلسوف الصبر ونموذج الإصلاح في زمن الفوضى السياسية
عباس النوري العراقي
---
تمهيد
منذ أن بزغ فجر الرسالة، كان بيت علي وفاطمة عليهما السلام رمزًا للصفاء العقلي والنقاء الأخلاقي. ومن هذا البيت خرج الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ليقدّم للإنسانية فلسفة فريدة تجمع بين الحكمة السياسية والرؤية الأخلاقية.
إنه ليس مجرد شخصية تاريخية، بل مشروع إنسانيّ متجدد يصلح أن يكون نموذجًا واقعيًا لكل من أراد أن يبني دولة العدالة في زمن الأزمات والصراعات.
---
أولًا: الإمام الحسن والعقل الإصلاحي في مواجهة الاضطراب
تسلّم الإمام الحسن زمام الأمة في مرحلة كانت فيها النفوس مشحونة، والمصالح تتنازع، والأفكار تضيع بين السيوف والمطامع. فواجه كل ذلك بعقلٍ نادر المثال، قائم على مبدأ أن القيادة ليست انتقامًا بل مسؤولية، وأن حفظ الأمة أولى من انتصار الذات.
صلحه مع معاوية لم يكن هزيمة، بل كان انتصارًا للإنسان على غرائزه، وانتصارًا للعقل على العاطفة. لقد قرأ الواقع قراءة فلسفية، ورأى أن الأمة المنقسمة لا تُقاد بالسيوف، بل تحتاج إلى تربية فكرية تُعيد بناء وعيها الجمعي.
---
ثانيًا: فلسفة الصبر كأداة تنوير سياسي
الصبر في فكر الإمام الحسن عليه السلام ليس ضعفًا، بل استراتيجية أخلاقية لتجاوز الفتنة.
فهو صبرٌ واعٍ، يتعامل مع الزمن كعنصر من عناصر الإصلاح. فحين تتغلب الغرائز على العقول، يصبح الصبر أداة لتفكيك التوتر وبناء الوعي.
هذا الفهم العميق يجعل من الإمام الحسن رائدًا في الفكر السياسي الأخلاقي، لأن هدفه لم يكن السيطرة على السلطة، بل إنقاذ المجتمع من الانهيار القيمي.
---
ثالثًا: دروس الحسن في الواقع العراقي المعاصر
لو تأملنا حال العراق اليوم، لوجدنا أننا نعيش مشهدًا شبيهًا بزمن الفتن الأولى:
صراعات على المناصب، وتناحر على النفوذ، وتراجع في القيم التي قامت عليها مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
فالأحزاب التي ترفع شعار المظلومية والولاء، كثيرًا ما تُخطئ حين تُمارس السياسة بمعزل عن الروح الحسنية، روح التسامح والحكمة وضبط النفس.
إنّ العراق اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة لفكر الإمام الحسن، لا بوصفه تراثًا مقدسًا فحسب، بل كمنهج عملي في إدارة الدولة والمجتمع.
فهو يدعونا إلى:
1. إعادة الاعتبار للأخلاق في السياسة، لأن السياسة بلا أخلاق تتحول إلى سلطة جائرة.
2. تقديم المصلحة العامة على الحزبية، كما قدّم الإمام وحدة الأمة على مكاسب الحكم.
3. ممارسة الصبر الواعي لا الصمت السلبي، أي الصبر الذي يصنع الإصلاح لا الذي يبرّر الفساد.
4. الحوار بدل الإقصاء، فالعراق وطن متعدد المذاهب والقوميات، والحسن علّمنا أن الحوار لا يُضعف الحق بل يُعظّمه.
---
رابعًا: فلسفة الإمام الحسن كمنهج لبناء الدولة
إنّ فلسفة الإمام الحسن يمكن ترجمتها اليوم إلى مشروع تنوير وطني، يعتمد على:
ترسيخ مبدأ الإنسان قبل المذهب، فكل مواطن شريك في بناء الوطن لا تابع لطائفة.
نشر ثقافة الصبر والتسامح السياسي، لأن البناء يحتاج إلى زمن، لا إلى انفجار غضب.
دعم العقلانية في القرار السياسي، لأن العاطفة وحدها لا تصنع استقرارًا.
إحياء مفهوم القيادة الأخلاقية، التي ترى المنصب تكليفًا لا تشريفًا.
---
خامسًا: نداء إلى الساسة المنتمين لمدرسة أهل البيت عليهم السلام
أيها الساسة الذين تتخذون من مدرسة أهل البيت شعارًا، إنّ الحسن عليه السلام لم يكن زعيمًا حزبيًا، بل قائدًا إنسانيًا ربّى أمةً على الصبر والعقل والحوار.
فاتخذوه نموذجًا عمليًا لا شعاريًا.
اجعلوا من فكره نبراسًا يُضيء مساركم في زمن ازدحمت فيه المصالح وضاعت فيه القيم.
إنّ من يتّبع الإمام الحسن حقًا، يجب أن يكون مستعدًا للتنازل عن الكرسي من أجل الأمة، لا أن يتنازل عن الأمة من أجل الكرسي.
---
الخاتمة: الحسن بين الفكرة والتطبيق
الإمام الحسن بن علي عليه السلام ليس ذكرى عابرة في التاريخ، بل هو مشروع إصلاح مستمر.
لقد قدّم للعالم أول تجربة في الفلسفة السياسية الأخلاقية التي توازن بين العقل والمبدأ، بين الواقع والمثال.
وفي عراق اليوم، يبقى فكره ضوءًا يمكن أن يُخرج الساسة والمثقفين من ظلام الفتنة إلى أفق الوعي الوطني.
فكما كان صبره مفتاحًا للسلام، يمكن أن يكون فكره مفتاحًا لنهضة عراقية جديدة، أساسها الأخلاق، وغايتها الإنسان.