مشاريع الملوك .. آمال علت وأختفت
رشيد الخيّون
ظهر ثلاثةُ ملوكٍ، ورئيس جمهوريّة قامت على أنقاض إمبراطوريّة كبرى، ورثت شساعة الإمبراطوريّة العباسيَّة، لكنها لم تتحصن مِن مجريات الزَّمن، فظلت سابحة في فلك القرون الخوالي، غير أنّ ضابطاً فهم الإشارة، فصنع منها دولة، علا بها وارتقى، ومهما حاول، مَن خَلفه، التّخلص مِن خياله لم يستطع، فصار الواقع أنَّ بلاد أتاتورك لا تعيش بالعثمانيَّة ولا الأتاتوركيَّة الخالصتين.
أما الملوكُ الثَّلاثة، فلم يبتعدوا عن آمال أتاتورك(1923- 1938)، حكموا بلا عقائد غير«الدولة الوطنيَّة»، فمِن العادة أنَّ الأنظمةَ غير القابلة للتقدم، تخلق بلاءها مِن داخلها، إذا كانت عقيدتها شموليَّة، تأسست على روايات إلى الخيال أقرب، ومِن العادة أيضاً أنَّ العقائد لا تُقدم طعاماً ولا شراباً، فيجترها أصحابها، ولا يجدون سامعاً إلا الغارقين في الجهل. ليس لدينا ما يُبثت أنَّ ملك العِراق فيصل الأول(1921-1933) تأثر بأتاتورك، لكنه ابن مجلس المبعوثان، وسقوط العثمانيَّة جعل والده وأبناءه الملوك يشرئبون إلى الدَّولة الوطنيَّة، سواء كان حلم الأب بدولة عربيّة شاملة، أو أحلام الأبناء بدول وطنيّة على أنـقاض إمبراطوريّة.
مقاطعات مفككة
أحسبُ أنه تأثر، فأسس الدّولة العِراقية الحديثة بمنأى عن الماضي، وعمل على تغيير المجتمع سريعاً.
نادى بـ«الأمة العراقيَّة»، مِن أول خطوة خطاها ببغداد، زار الطوائف كافة ودعاهم إلى شعاره، وتقدمت المرأة وشُيدت المدن، وسُنت القوانين، وأخذ العراق ينطلق كالسّهم، لكنَّ وفاته قلبت الموازين.
حاول رضا شاه، بعد تتويجه(1926-1941)، وكان تأثره واضحاً بأتاتورك، واستطاع توحيد ما أطلق عليه إيران (1936)، فكانت مقاطعات مفككة، وقطع شوطاً في تمدينها، وجمع لها مِن البلدان ما لم يكن لها، فصارت موردها الأكبر، لكنَّ السِّياسة شاءت غير ذلك في ظروف الحرب، وانتهى حلمه بإيران تناطح الغرب، مثلما أراد فيصل الأول للعراق، فلم يستطع الأبناء حفظ ما أراده الآباء، هزتهم الرّياح قبل العواصف.
أما الملكُّ الأفغاني أمان الله خان(1919-1929)، فكان أكثر أصحاب الآمال المذكورين عجلةً وحماساً، وأقلهم واقعاً يقبل التَّقدم، وأنزرهم ثروةً. حاول بناء دولة أفغانيّة، تنقل الأفغان من واقع الكهوف والممرات إلى آفاق دولة حضارية، فكان مثل فيصل الأول يلحُ على الهوية الأفغانيّة، لأنَّها القاعدة لبُنية الدَّولة، فلا يُطيق سماع ألقاب عرقية وقبليَّة، وما أكثرها وأعمقها بين جبال ووديان أفغانستان.
قال في خطاب له بمدينة قندهار، التي لا يقف بها اليوم مدنيَّاً: «ليس لدينا ما يسمَّى بالهندوس، والهزارة، والشِّيعة، والسُّنة، وأحمدزاي، وبوبلزاي، بل نحن جميعنا أمة واحدة، وهي الأفغانية»(عن كتاب مركز المسبار الشَّهري).
اعراف دّينيّة
كانت بناتُ فيصل الأول، ورضا شاه، وأمان خان حاسرات الرُّؤوس، وهنَّ أول النّساء في ذلك، وقد تعامل الآباء بمنطق الصّدمة، فواقع المرأة كان مزريّاً، وتقاليد القبلية والأعراف الدّينيّة آنذاك لا تسمح بكشف الوجه، ناهيك عن التعلم. لذا كان لتعليم البنات خصوصيَّةٌ، صدامات وتضحيات، لأنَّ القوى المعترضة تحاذر من تعليمهنَّ، والمبرر الأشد «سَدًّا لِلذَّرَائِعِ»، وأراه لفظاً اخترعه المعاصرون ضمن ما اخترعوا، ليس في الكتاب ولا السُّنةِ. فكان عندهم ما شرعه المحتسبون: «إنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْخَطَّ كَمَثَلِ الْحَيَّةِ تُسْقَى سُمًّا»(ابن الأخوة، معالم القربة).
أحسب أنَّ الجمع بين الحيَّة والمرأة مجترٌ مِن الميثولوجيا. اعترض محمد مهديّ الجواهريّ (ت: 1997) مبكراً على عرقلة تعليم البنات بمدينته ذات الطّابع الدِّينيّ، وما حشده رجال الدّين ضد قرار فيصل الأول، في فتح مدرسة لهنَّ، قائلاً: «غداً يُمنع الفتيان أنْ يتعلموا/ كما اليوم ظُلماً تُمنع الفتياتُ»(الرّجعيون 1929). علت مشاريع الملوكِ واختفت، لتظهر مدونات فقهية ظالمةً للنّساء ومشوهةً للأوطان، لكنَّ بعد العاتيات تحققت على أنقاض المعسرات، مشاريعُ واعدةٌ، اخضرت بها آمال لصالح النّساء والمجتمعات، فدَّب التَّمدن في رِمال الصّحاري، وصخور الجبال الصّم، بما لم يتوقع حدوثه، يوم طرح الملوك المذكورون مشاريعهم، التي اختفت بفعل فاعل.
كاتب عراقي