عامر عبد زيد.. بين التاريـخ والحداثة، في رحاب الفلسفة والتسامح

محمد علي محيي الدين

في مدينة الحلة، التي تشهد على عبق الحضارة ودفء التراث، ولد عامر عبد زيد كاظم الوائلي في مطلع صيف عام 1968. تلك المدينة التي تحفظ بين أزقتها قصص الأجداد، وشهدت على صيرورة تاريخ العراق، احتضنت روح الباحث منذ نعومة أظفاره. هنا، في ذلك المشهد البغدادي التراثي، ترعرع ونمت فيه بذور الفكر والحكمة التي رافقته في رحلة لا تعرف الكلل.

بدأ دربه الأكاديمي في العراق، حيث أكمل دراسته الجامعية بتفوق، ثم ماجستير ثم دكتوراه في الفلسفة الوسطية الإسلامية والمسيحية، ليضع نفسه في موقع الباحث الفريد الذي لا يكتفي بالبحث السطحي، بل ينغمس في أعماق الأديان والفلسفات، مستنطقًا تراث الفكر والتأويل، وساعيًا لبناء جسر بين ماضي العقل وحاضر الوعي.

رحلة التعليم والتأثير الأكاديمي

كان عامر عبد زيد أكثر من مجرد باحث؛ فهو معلم مؤثر، ينقل للطلاب عبر أروقة جامعة الكوفة شموع الفكر، مستحثًا إياهم على التأمل والتساؤل، والابتعاد عن القوالب الجامدة. كعضو في اتحاد الأدباء والكتاب فرع بابل منذ عام 1997، حرص على أن تكون المعرفة التي يصوغها حية، تخاطب القارئ والمثقف العربي بعمق ووضوح.

ولم يكن مجرد ناقل للمعلومة، بل صانعًا للرؤى الفكرية التي تعالج قضايا المجتمع من منطلق فلسفي مبدع، عاكفًا على إحياء التراث الفلسفي العربي الإسلامي وإبرازه في مواجهة التحديات المعاصرة، مسلطًا الضوء على تداخل الدين والسياسة والثقافة.

إنتاج فكري هائل: قلاع من المعرفة وتاريخ الفكر

في سجل الدكتور عامر عبد زيد، أكثر من ستين كتابًا بين الفردي والمشترك، وأكثر من مئتي بحث علمي منشور في مجلات ومؤتمرات محلية وعالمية. تُعد كتبه مرجعًا في مجالات متعددة: الفلسفة، الفكر السياسي، الخطاب الديني، نقد العقل العربي، الحداثة، وغيرها.

على سبيل المثال، كتابه "أثر ابن سينا على الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط" يعيد قراءة التراث الفلسفي الإسلامي وينقل أثره العميق على بناء العقل الأوروبي، مؤكدًا على وحدة المعرفة وحركيتها عبر الثقافات. و"المخيال السياسي في العراق القديم" يعيدنا إلى حضارات ما بين النهرين، حيث تتشابك السياسة والدين في قصة إنسانية ملهمة.

وفي عمله "من أجل أخلاقيات التسامح في ظل ثقافة اللاعنف" يقدم رؤية إنسانية معاصرة، تنادي بفتح أفق الحوار بين مختلف الأديان والثقافات، كأساس لسلام دائم في مجتمعاتنا الممزقة.

تحديات الفكر الحديث: بين الأصولية والحداثة

لم يغفل عامر عبد زيد عن دراسة الخطاب الديني والسياسي في واقعنا المعاصر، فكان كتابه "مقاربات في الديني والسياسي" شاهدًا على نقده العميق لتحولات الفكر الديني وكيف يتشكل في أروقة السلطة، مع ملاحظة آثار ذلك على وعي الجماهير.

كما أنه من أوائل الباحثين الذين تناولوا الخطاب الحداثي ونقد مدرسة فرانكفورت في كتابه "الحداثة ومأزقها في خطاب مدرسة فرانكفورت"، مجسداً أزمة الفكر الحديث وكيفية تجاوزه بالوعي النقدي المتجدد.

في "نقد العقل العربي عند محمد عابد الجابري" و"نقد العقل العربي عند علي زيعور"، يقدم قراءة معمقة لتطور الفكر العربي ونقاط التحول التي تشكلت فيها مشكلات الحداثة والأصولية، مع دعوة لتجاوزها عبر العقلانية والنقد البناء.

الآفاق الدينية والفلسفية: قراءة متجددة للتراث

تميز الباحث أيضًا بنظرته المتجددة في موضوعات الدين والفلسفة، كما في "علم الكلام الجديد ورهانات الحداثة"، حيث يحلل التحولات التي طرأت على الفكر الديني في ضوء الحداثة والعلوم الإنسانية الحديثة. وفي "الأصولية بين اليهودية والمسيحية والإسلام" يدرس مقاربات الأصولية في الأديان السماوية الثلاث، محاولة فك شيفرات التطرف والعنف.

وفي أعمال مثل "تجليات العقل العملي في التربية والأخلاق" يربط الفكر الفلسفي بتطبيقاته الحياتية، معطياً اهتمامًا خاصًا لبناء الإنسان الفاعل في مجتمعه.

وجهة عالمية.. حوار الثقافات وتجاوز الحدود

لم تقتصر مساهمات الدكتور عامر عبد زيد على العراق أو الوطن العربي فحسب، بل تجاوزت القارات، من خلال مشاركاته في المؤتمرات والندوات العالمية، حيث نقل صورة الفكر العراقي الحديث، حاملاً معه رسالة السلام والتسامح.

صوت النقد والاعتراف: آراء النقاد في عالمه الفكري

يصفه النقاد بأنه "باحث متعمق يتقن مزج المعرفة التاريخية بالفلسفة المعاصرة"، وهو "صوت العقل الناقد الذي لا يخشى مواجهة التحديات الفكرية في مجتمعاتنا". يرى الدكتور صباح نوري المرزوك أن إنتاجه يمثل "إضافة نوعية للبحث الفلسفي العربي، يجمع بين الأصالة والتجديد، ويطرح أسئلة راهنة حول العقل والدين والسياسة."

ومن جهته، يقول الدكتور عبد الرضا عوض: "في زمن التكفير والانسداد الفكري، يظل عامر عبد زيد منارات فكرية تضيء طريق البحث النقدي، وتدعو إلى الأخلاق والتسامح."

رحلة الفكر.. بين النور والظل

الدكتور عامر عبد زيد ليس مجرد أكاديمي، بل هو حارس لوعي متجدد، يكتب التاريخ الفلسفي والمعرفي بقلوب متفتحة وأذهان ناقدة، يدعو إلى التسامح والبحث عن جذور الحكمة في التراث. رحلة فكرية تليق بأجيال تتطلع إلى عالم أكثر إنسانية ووعيًا، حيث يتحول الفكر إلى فعل، والكتابة إلى رسالة، والمعرفة إلى نور لا ينطفئ.