ماذا لا يحزن العراق ؟.. ماتت فنانة الشعب
شوقي كريم حسن
سؤالٌ يتجاوز لحظة الفقد المباشر إلى جوهر ما يعنيه أن ترحل سليمة خضير، فنانة الشعب وعمّتي الطيبة، التي مثلت على امتداد ستة عقود أحد أعمدة الذاكرة العراقية الفنية. برحيلها يختفي صوت ظلّ وفيًّا للصدق، وأداء ظلّ متّزنًا في حضوره، واقفًا عند تخوم التعبير الشعبي البسيط العميق. سليمة خضير لم تكن مجرّد ممثلة تؤدي دورها أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح، بل كانت نصًّا إنسانيًا يقرأ المجتمع ويعيد كتابته بأجساد نسائه وأحلامهن وصبرهن. ولدت في البصرة في منتصف الأربعينات، وبدأت مسيرتها من فرق الهواة، لتصبح لاحقًا من أبرز وجوه المسرح والتلفزيون والسينما، شاهدة على تحولات العراق الدرامية والسياسية والاجتماعية، وصانعة لأدوار ستبقى محفورة في ذاكرة المشاهدين.من يراجع أعمالها المسرحية والتلفزيونية يجد أنها جسّدت المرأة العراقية في صور متعددة: الأمّ، الجارة، الزوجة، المرأة الكادحة، وحتى الشخصية ذات المواقف المركبة التي تقف بين العطف والتحدي. في مسرحيات مثل بين وخمس بيبان وآسف الرقم غلط، وفي مسلسلات مثل شناشيل حارتنا ومملكة الشر والثانية بعد الظهر وثلج في زمن النار وبرج العقرب والبيت الكبير وخيط البريسم ورجل فوق الشبهات وغرباء الليل وجحيم الفردوس وفوبيا العراق، صنعت صورًا شديدة القرب من الناس. وفي السينما تركت حضورها في أفلام التجربة والحارس وحمى الأبطال. هذه العناوين لا تُقرأ كقائمة فنية فحسب، بل كفصول في كتاب الحياة العراقية، حيث كان أداؤها علامة على القدرة على تحويل النصوص المكتوبة إلى وجوه مألوفة للجمهور، تستعير ملامحه وتعكس قضاياه. الناقد الذي يتتبع أسلوبها يجد أنها اعتمدت على الاقتصاد في الحركة، على استخدام نبرة صوت متوازنة، وعلى تحويل الصمت إلى أداة تعبيرية. كانت تعرف متى تترك للكلمة أن تُقال، ومتى تصمت لتتكلّم الملامح. وهذا وعي فني نادر، خصوصًا في بيئة درامية عراقية طالما مالت إلى المبالغة أو المباشرة في التعبير. ولعل سرّ قربها من الناس هو هذا التواضع الحرفي في التعامل مع الشخصية، إذ لم تكن تنظر إلى التمثيل كمنبر للنجومية، بل كفعل يوميّ يشبه تفاصيل الحياة التي نعيشها.لكنها في الوقت نفسه دفعت ثمن هذه الواقعية؛ إذ حُصرت أدوارها في كثير من الأحيان ضمن أنماط نمطية، ومع ذلك كانت قادرة على أن تمنح حتى هذه الأنماط حياةً ومعنى. مسيرتها شهدت ذروة في الثمانينات والتسعينات، ثم غيابًا تدريجيًا فرضته ظروف شخصية وصحية، حتى اعتزلت تمامًا. ومع ذلك ظلّت صورتها محفورة في الذاكرة، وظلّ الحنين يرافق اسمها أينما ذُكر. نقد تجربتها لا يكتمل دون الإشارة إلى القصور الكبير في التوثيق الأكاديمي. فمثلها مثل كثير من أبناء جيلها، لم تُدرَس دراميًا دراسة كافية، ولم تُؤرشف أعمالها أرشفةً تليق بقيمتها. رحيلها اليوم يطرح سؤالًا وجوديًا: لماذا لايحزن العراق على مبدعيه بما يكفي ليحوّل هذا الحزن إلى فعل مؤسسي؟ الحزن لا ينبغي أن يكون بكاءً عابرًا ولا خبرًا صحفيًا يمرّ سريعًا، بل مشروعًا توثيقيًا يحفظ سيرتها، يسجل شهاداتها، ويعيد قراءة نصوصها المسرحية والتلفزيونية، لأن رحيلها ليس فقدان فرد، بل فقدان طبقة كاملة من التجارب الإنسانية والفنية.حين نقول ماتت فنانة الشعب، فإننا نقول مات الفن الجميل، وماتت التحديات الكبيرة، وماتت الروح المثابرة الجريئة العارفة. لكننا في الحقيقة نقول أيضًا إن هذه القيم ما تزال ممكنة إذا وعينا درس الرحيل. سليمة خضير تركت لنا ذاكرة لا تُشترى ولا تُعوّض، ومسؤولية أن نعيد إليها مكانتها عبر النقد والتوثيق. لماذا لايحزن العراق؟ لأن حزنه الحقيقي لا يكون دمعةً فقط، بل فعلًا يحفظ الوجوه التي صنعت ذاكرته.