الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
زيارة الأربعين تحت مقصلة القمع البعثي: سردية الدم التي لا تموت

بواسطة azzaman

زيارة الأربعين تحت مقصلة القمع البعثي: سردية الدم التي لا تموت

محمد علي الحيدري

 

لم تكن زيارة الأربعين في عهد صدام حسين مجرّد شعيرة دينية تُؤدى على استحياء، بل كانت فعلًا محفوفًا بالخطر، ومطاردةً علنية بين الإيمان والخوف. فقد اعتبر النظام البعثي، منذ أوائل الثمانينيات، أن مواكب المشي إلى كربلاء تمثل خرقًا أمنيًا وسلوكًا ينطوي على ولاء غير مسموح به. وبحسب ما وثقته منظمة العفو الدولية في تقاريرها عن العراق خلال تلك الفترة، فقد حظر النظام الزيارة كليًا، وأصدر أوامر مشددة باعتقال الزائرين وتفريق المواكب، حتى أولئك الذين كانوا يسيرون سرًا من محافظات الجنوب.

ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، تحوّل الحظر إلى سياسة منهجية، حيث جرى نشر الحواجز الأمنية، وأُعلنت حالة الطوارئ كل عام في محيط كربلاء والنجف خلال موسم الأربعين. شهادات الناجين، التي جمعتها مؤسسة الذاكرة العراقية في إطار برنامج العدالة الانتقالية، تؤكد أن الأجهزة الأمنية كانت تنفذ إعدامات ميدانية على الطرق الزراعية والفرعية المؤدية إلى كربلاء. وكانت جثث بعض الزائرين تُترك عمدًا في العراء لتكون عبرة لغيرهم.

في نهاية عام 1990، وبعد عزلة النظام إثر غزو الكويت، سُمح للناس بأداء زيارة الأربعين لأول مرة منذ سنوات، في محاولة واضحة لامتصاص غضب الشارع الشيعي المتنامي. وبرغم أن الزيارة تمت تحت رقابة أمنية مشددة، فقد شكّلت متنفسًا رمزيًا لتعبير ديني ظلّ محاصرًا طويلاً. لكن هذا الانفتاح المحدود لم يكن سوى هدنة قصيرة، إذ أن الغضب الشعبي كان يتراكم، حتى انفجر بعد أشهر في انتفاضة شعبان عام 1991، التي اندلعت عقب انسحاب القوات العراقية من الكويت. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” بعنوان Endless Torment، اجتاحت قوات الحرس الجمهوري مدينتي كربلاء والنجف لقمع الانتفاضة، وقتلت الآلاف من المدنيين، بينهم مئات من الزائرين والعائدين من المناسبات الدينية، أو ممن اعتُقلوا لاحقًا بتهم المشاركة أو التعاطف.

 

لقد مثّل ذلك الحدث نقطة فاصلة، إذ لم يعد القمع مقتصرًا على المنع والملاحقة، بل اتّخذ طابعًا انتقاميًا ممنهجًا. ووفقًا لوثائق هيئة المساءلة والعدالة في العراق، فقد أُنشئت مقابر جماعية تضم أعدادًا من الزوار الذين اعتُقلوا على الطريق أو بعد مداهمات في كربلاء خلال تلك الفترة. بعضهم دُفنوا أحياء باستخدام الجرافات، في مشهد يُستعاد اليوم كواحد من أبشع وجوه الاستبداد.

الممارسات القمعية لم تقتصر على الجسد، بل امتدت إلى الرمز. فقد وثّق علماء دين وشهود عيان – من بينهم السيد محمد باقر الحكيم في خطاباته قبل اغتياله – استخدام النظام لمآذن الحرمين في كربلاء والنجف لبث أناشيد البعث، ومنع إقامة المجالس العاشورائية، وإغلاق الروضتين الحسينية والعباسية أمام الزائرين. لم يكن ذلك عبثًا، بل محاولة لمحو الذاكرة وإخضاع المقدس.

وبرغم كل ذلك، ظل الزائرون يسيرون. ظلّت المواكب تُنظَّم سرًا، وظلّت الزيارة تُؤدى كنوع من المقاومة الصامتة. لقد تحولت الأربعين، في ظل حكم صدام، من شعيرة دينية إلى رمز للهوية والتحدي. وقد أشار عدد من الباحثين في دراسات الأنظمة الشمولية إلى أن الطقوس الدينية، حين تُحاصر وتُمنع، لا تفقد معناها بل تكتسب أبعادًا إضافية، وتتحول إلى تعبير سياسي واجتماعي يتجاوز الإطار الروحي، إذ تصبح الشعائر نفسها شكلًا من أشكال الاحتجاج الصامت والتمسك بالذات في وجه القمع والتذويب.

اليوم، حين تُرصد ملايين الزائرين وهم يمشون بحرية نحو كربلاء، فإن وقع الخطى لا يُسمع وحده، بل يُستعاد أيضًا صدى أولئك الذين مشوا ثم اختفوا، أولئك الذين قتلتهم الأنظمة لكنهم ظلّوا أحياء في هذه الشعيرة. إن قمع زيارة الأربعين لم يكن مجرد سياسة أمنية عابرة، بل جزءًا من مشروع لإعادة صياغة العراق على مقاس الخوف، وقد فشل. فزيارة الأربعين، التي نجت من الرصاص والمقابر، لا تزال حتى اليوم تروي سردية لا تموت.


مشاهدات 306
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/08/09 - 2:35 PM
آخر تحديث 2025/08/11 - 1:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 79 الشهر 7547 الكلي 11402633
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير