اللقاء المنتظر
فاضل البدراني
هدأت روح الأم وطفلها بعد حرارة لقاءٍ طال انتظاره، اتّشح بالحب والحنان. أخذ الطفل يتكور في حضنٍ حُرم منه طويلاً، يدفن رأسه في صدرٍ اشتاق لرائحته، وتذوّق فيه عبق الأمومة، وذكريات العيش الآمن في كنفها.
وهي الأخرى لا تكفّ عن تقبيله، تشمّ رأسه ووجنتيه، وتزيد من شدّة احتضانها له بين الفينة والأخرى، كأن كل واحدٍ منهما يُفرغ شحنة شوقٍ ملتاعٍ ابتُليا به في غفلةٍ من الزمن.
دموع الفرح وسُفرة الوداع
احتسى المتجمهرون الشاي في تلك العصرونية القائظة من آب 1973، ثم غادروا البيت الذي شهد لحظةً من السعادة، اختلطت فيها الضحكات بالدموع. كان آخر المغادرين الحاجة سعدة وابنها محمود، وهي التي نجحت بوساطتها في إعادة الطفل إلى أمه لأسبوعٍ واحد فقط.
ارتدت عباءتها، ونهضت بعفّتها وكبريائها ووجهها المشرق بنور الصدق وجمال الشكل. كانت عنواناً للمرأة العربية المهيوبة.
اقتربت من الطفل، قبّلته من فمه وخدّيه، وقالت برقة:
– جدو، بعد أسبوع أجي آخذك لبيت والدك. وعدتهم، ووعد المرة الحرة دين.
رفع رأسه نحوها، وصوته يغصّ بالعبرة:
– جده… أي يوم تجين تاخذيني؟
قالت:
– الجمعة.
توسل إليها:
– جده، عفية خلّيها السبت… أريد أشبع من أمي.
يا لها من حجّة أبكت الحاضرين!
قالت بهدوء وقد تلعثمت من شدة الموقف:
– صار جدو… السبت.
ثم أضاف:
– جده، عفية نهاية النهار!
هزّت رأسها موافقة، وغادرت هاربة من وجع موقفٍ لا يُحتمل، موقف تمرّ به أم عظيمة، استُهدفت في أغلى ما تملك، وطفلٌ صار يتحدّث بلسان الكبار، تحرّكه دوافع نفسيّة جوهرها الحرمان من حضن الأم.
□ □ □
العودة إلى البيت الأول
سكنت الحلاوة وجوه الأسرة بعودة الغائب، نظرات ممزوجة بالفخر والحسرة. قالت أمه، تداعب خصلات شعره:
– وليدي، تريد تاكل شي؟
فاجأها قائلاً:
– ماما… الجوع ملازمني من يوم غادرت هذا البيت. مشتهي أكلة من إيدك.
لَطمت الأم وجهها، وقالت بوجع:
– ما هذا الكلام، وليدي؟ صرت تسولف بعقل الكبار، سوده عليَّ يا بعد روحي!
قدّمت له عنباً أسود. أخذ أول حبّة ووضعها في فمها. ثم فعلت هي بالمثل، واحتضنته بشدّة، وقد أصبح جسده الرشيق أنحف بكثير.
نهضت إلى المطبخ، وقدّمت له صينية طعام من الرز والمرق الأحمر والدجاج. جلس أمامها، وتأمّل الطبق:
– ماما… هذا أنتِ طبختيه؟
اغرورقت عيناها:
– كافي وليدي… لا تقسي بكلامك.
ابتسم بشفاه خاوية، ثم أردف:
– أي ماما، هذا طبخك. الگفرة موجودة عالتمن!
وكان يقصد بها القشرة الذهبية من الرز المحمص في قاع القدر، كانت أكلته المفضلة، وحصته التي تحفظها له أمه دائمًا.
□ □ □
حمّام الحب وملابس العودة
غسلت ملابسه وجسده بصابونة “الرگي السوري”، كما كان يُعرف في السوق. ثم ألبسته ملبسًا جديدًا من خياطة “حمده الگمر”، أشهر خيّاطة في المدينة.
كل شيء جديد… حتى أن المنطقة بأكملها شعرت بأن حدثًا جللًا قد حصل، وبدأ الناس يتوافدون لزيارته، يحيّونه ويقبّلونه. كانوا يعرفونه بجرأته وفصاحته ونظافته، والسر في ذلك رعاية أمٍّ لا تملك غيره، فصبّت فيه كل حبّها، وعوّضته عن غياب الأب والشقيق.
□ □ □
الأم… الحياة
في صباح اليوم التالي، خرج باكرًا يبحث عن أصدقائه القدامى. نظر إلى البيوت المجاورة، وتفقد الطيور التي كان يربيها. سأل عن طائره المفضّل من نوع “مسكي” القلّاب، فأخبروه أن القطة أكلته في إحدى الليالي.
اغتمّ للحظة، لكنه تمتم:
– أمي أغلى من كل شي… كل شي فدوة لسلامة أمي.
صار يُفكر بعمق يفوق عمره، يُدرك قيمة الأم إدراك العارف، ويعي ما عاناه في البُعد عنها. تجمهر الأطفال حوله، يسألونه:
– شلون عشت الـيوم؟
أجابهم بجملة اختصرت كل شيء:
– أنتم “مسعدين”… محد منكم حرم من أمّه.
بعد لحظات وإثناء الإنهماك باللعب والسوالف توارى عن الأنظار أحد أصدقائه وحينما سأل عنه أين محمد فلم يجبهُ أحداً، لكنه سمع منه شخصيا لاحقًا إنه لمجرد ما سمعهُ من حديثه عن غياب الأم جعله يغادر مسرعًا إلى بيته، ويحضن أمه ويبكي، وقال لها:
– ما سمعته من حنان فلان على أمّه خلاني أعرف إنك الجنة يا أمي.
□ □ □
الوداع الثاني
جاء موعد العودة إلى بيت الأب. الليلة السابقة كانت حالكة بالحزن. تشبّث الطفل بجسد أمه، ودفن أنفه في صدرها كما لو كان يحاول أن يختزن الحنان للأيام القادمة.
وفي وقت العصر، دخلت الحاجة سعدة، والوجع يعيد نفسه من جديد.
وداع… عناق… دموع…
رأس الطفل ملتّفت إلى الوراء، لا يغيب عن وجه أمّه.
يدٌ ترفع بالدعاء له، وقلبٌ معلق برجاء العودة القريبة.