المدرسة والخميس المنتظر
فاضل البدراني
تأخر الطفل عن دخول المدرسة رغم التحاق أقرانه، بسبب كابوسٍ زرعه الكبار في ذهنه: “إذا دخلت المدرسة، سيأخذك أهلك عند خروجك!”
فخاف، وتأخر سنتين.
لكن بعد أن تبدلت حياته وانتقل إلى كنف والده، جاء يوم تسجيله في المدرسة. اصطحبه والده وعمه إلى السوق، وابتاعوا له حقيبة خضراء وملابس وقرطاسية، وفي أيلول 1973 دخل لأول مرة بوابة مدرسة “قتيبة بن مسلم”، الواقعة في أطراف الفلوجة، ناحية الصقلاوية.
دخل الإدارة حاملاً “الفايل”، وعندما سأله المعلم عن اسمه الثلاثي، تمنى لو يُسأل عن اسم أمه، لشدة تعلّقه بها.
جلس في الصف الأول (ب)، وحين دخل المعلم محمد خلف عنتر، شعر الطفل أنه أمام حياة جديدة.
في نهاية الدوام، وبين زحام الطلاب، لمح “ضاري”، أحد جيران بيت خواله، فشهق فرحًا، وكأن وجه الديرة جاءه في هيئة صديق.
كان الخميس موعدًا مقدسًا في ذاكرته، يوم تزوره فيه أمه، وينتهي السبت بمغادرته.
أحب الخميس، واستقر نفسيًا في صباح الجمعة، لكن مساءه كان ثقيلًا، إذ يذكّره بالوداع.
نفسية مستقرة
السبت، بالنسبة له، كان يومًا حزينًا، كُرهه الطفل وظل يكرهه حتى كبر.
ومع اقتراب كل خميس، كان ينتظر أن يسمع كلاما بالذهاب إلى والدته، لكن الصمت كان سيد الموقف.
كان هذا الصمت مؤلمًا، لا سيما لطفل لا يجد في بيت غريب عليه من يشاركه حزنه أو يسأله عن ألمه.
ومع ذلك، بقي الأمل حيًا.
علِم مدير المدرسة، الأستاذ كريم كركز (أبو شروق)، بقصته.
استدعاه، وسمع منه باهتمام، ثم قال عبارته التي لا تُنسى:
“الطالب لا ينجح ما لم تكن ظروفه النفسية مستقرة، والمدرسة حين تكون جزءًا من الحل، تتحول لأسرة.”
اتفق معه الطفل على جدول زيارات: يغادر بعد دوام الخميس ويعود صباح السبت، ووافق المدير، متعهدًا بمتابعة حالته.
في مساء الأربعاء، ناداه والده بصوته الحنون والذي كان يبدل حهودا كبيرة لكسب عاطفة ولده الذي حرم من رؤيته سبع سنوات :
“وليدي… غدًا، بعد المدرسة، اذهب إلى أمك.”
نعم، قالها الطفل، لكن قلبه كان يرقص من الفرح.
اختلى بنفسه، عبّر عن نشوة النصر بحركة يديه، وقال لنفسه:
“غدًا… في حضن أمي، يا له من يوم عظيم!”
نظر إلى ساعته من نوع “Jovial” التي أهدتها له أمه، فشعر وكأن اسمها منقوش فيها، بل وعبقها يتصاعد من معدنها.
فجر الخميس، لم ينم من شدة الشوق. حضّر حقيبته باكرًا، ارتدى ملابسه، وذهب إلى المدرسة.
مرت الحصص بطيئة، لكن قلبه كان في الدرس الخامس، حيث الجرس المنتظر.
رن الجرس. خرج الطفل يحمل حقيبته، يسلك طريقًا يأخذه إلى بيت الجدة، الأم، الخوال، والخالات.
وصل. كان في استقباله حفلٌ عفوي من الفرح، احتفال بحضوره، بعينيه، بخطواته.
قطع مسافة طويلة مشيًا، لكنها كانت أجمل رحلة في حياته… لأنها انتهت بحضن الأم.