رؤية إنسانية في حكم قضائي
عماد يوسف خورشيد
من خلال الاطلاع على المحاكمات القضائية، لاحظنا حكماً للمحكمة الأمريكية العليا؛ يستند إلى قيم المجتمع وأعرافه ومبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، صدر في فبراير 1991 من محكمة في المقاطعة الشرقية لكاليفورنيا (فرنسو) بناءً على الوجدان الإنساني بعد غياب أو تضارب الوجدان القانوني، والتي عُرضت على القاضي «روبرت إي. كويل» وتلخصت في: قيام سيدة تُدعى «أليشيا كاسترجون» مع لجنة فرص متساوية للعمل بتقديم شكوى ضد إحدى الشركات في كاليفورنيا تُدعى «Tortilleria la major of Farmersville»، إذ ادعت أنها قد فُصلت من الشركة بسبب قيامها بتسجيل شكاوى ضد الشركة لدى «لجنة فرص متساوية للعمل» بسبب «تمييز في العمل». والملاحظ في القضية، أن الإشكالية التي واجهها القاضي كانت تتمحور في محورين:
الأول: هل يحق لـ»أليشيا كاسترجون» أن تسجل دعوى في المقام الأول باعتبار أنها مهاجرة لا تحمل أوراق توثيق رسمية؟
والثاني: أن القانون – محل موضوع القضية - قد صدر من الكونجرس عام 1986، والذي «يمنع تشغيل المهاجرين غير المسجلين»، ولكنه لم يحدد القانون ما إذا كان المهاجرون الذين تقدموا بطلبات هجرة استنادًا إلى «مفاهيم حقوق الإنسان» محميّين خلال الفترة التي يتم فيها النظر في طلباتهم، علمًا أن المشتكية كانت إحدى هؤلاء الذين لم يُبت في طلبهم أثناء تقديم الشكوى للمحكمة.
ولمعالجة المحورين أعلاه؛ لجأ القاضي إلى القوانين واللوائح والإرشادات القانونية لوزارة العمل، وإلى لجنة فرص متساوية في العمل، وذلك من أجل تبصيره ببيان الحقوق المؤقتة للمقيمين غير المسجلين. وتوصل إلى أن: «العاملين يكونون محميين بقوانين العمل وعدم التمييز الفيدرالي حتى لو كانوا متواجدين في البلاد بصورة غير قانونية».
تناقض ظاهري
وبعد وضع القضية قيد الدراسة والمذاكرة صدر الحكم، وجاء فيه بما مؤداه: «بجواز العاملين غير المسجلين برفع دعوى تمييز ضد صاحب العمل بغض النظر عن وضعهم القانوني لإقامتهم في البلاد». وكذلك أشار في حكمه إلى وجود التناقض الظاهري بين عدم التشجيع غير القانوني للهجرة وبين السماح للعاملين غير المسجلين اللجوء إلى الطرق القانونية لمواجهة التمييز في العمل والوظيفة. وذكر القاضي أيضًا في تبرير الحكم أعلاه... أننا نرى أن العديد من الغرباء الذين يأتون إلى بلادنا للبحث عن الحماية التي توفرها قوانيننا في العمل.
والنتيجة أنه كان لهذا الحكم الأثر على مئات الآلاف من المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية ( أشار إلى الحكم: روبرت أ. كارب ورونالد ستيدهام، الإجراءات القضائية في أمريكا، الطبعة العربية الأولى، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 1997، ترجمة، د. علاء أبو زيد، ص 377).
وفي الاتجاه ذاته يذهب الفقه القانوني الأمريكي نحو ضرورة وأهمية إظهار روح القانون ودوره القيمي وذلك بالقول: «ضرورة أن تذهب محاكمنا إلى أداء دورها التربوي الكبير في حماية الحقوق والحريات الأساسية للناس». ويتمثل ذلك في أن يكون رجال إنفاذ القانون القدوة في تطبيق القانون واحترامه، واستبعاد أي إجراء أو دليل لم يتم الحصول عليه بشكل غير مشروع. وبذلك يتم تشجيع المجتمع بالتمسك بالقيم الإنسانية. (د. عماد يوسف خورشيد، مدى حجية الأدلة المتحصلة بطرق غير مشروعة، دار الأهرام للنشر والتوزيع للإصدارات القانونية، القاهرة، 2025، ص 249).
صفوة القول: اتضح لنا من خلال هذا الحكم أن القضاء الأمريكي يلجأ إلى مصادر المشروعية الإجرائية الجنائية من مفاهيم حقوق الإنسان عند إصدار الأحكام، وليس فقط مصادر الشرعية الإجرائية الجنائية. وهذا ما يؤدي إلى إظهار الدور القيمي للقانون في مضمون الأحكام القضائية، وهي تجربة إنسانية قيمة يستحسن الاسترشاد بها عند إصدار الأحكام لتثبيت القيم الإنسانية.
وثبت علميًا أن الأحكام القضائية تساعد في تثبيت القيم الإنسانية في المجتمع، لاستناد الحكم على بيان الواقعة بشكل دقيق وتطبيق القانون ومبادئ الأحكام القضائية والعرف ومبادئ العدالة وآراء الفقه القانوني السليم الذي يمثل روح القيم الإنسانية وما ينفع الناس، وكيف لا والسلطة القضائية رمز العدالة، ورقي الأمة، وحامية الحقوق والحريات، وفي أغلب الأحيان تتحول مبادئ الأحكام القضائية الثابتة إلى قاعدة قانونية. انظر: ( د. عماد يوسف خورشيد، تقنين الأحكام القضائية الصادرة من محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف بصفتها التمييزية، دراسة مقارنة، مكتبة التشريع القانونية، بغداد، 2025، الطبعة الثانية، ص50).