من مخطوطتي السردية..سيرتي الذاتية
طلال الغوّار
3 - بيتنا الطيني
للأمكنة رائحة خاصة مازال لها وقع جميل في نفسي ووجداني , استحضرها دائماً, بل هي من تداهمني وتتملكني وتستحوذ على كياني , حضورها قوي ومؤثر لما له من معنى في حياتي.
فقد ولدت في بيتٍ طينيٍّ متواضع , كأي بيت من بيوت القرية , بيت كان يطّل على النهر, فترعرعت على ضفافه , وبامتدادات طرقات القرية الترابية الطويلة , والمتعرّجة , والمدى الذي يتسع بحقولها الخضراء, وسواقيها وأشجارها, في فصل الربيع ، وناسها الذين أغلبهم من الفلاحين . في الصيف لياليها مقمرة , ولياليها الشتوية تجعلنا نتزاحم على موقد الحطب , وتحت ضوء ذابل لقنديل نفطي معلّق في إحدى الزوايا .
يبقى البيت يحمل معنىً واحداً , فالبيت هو الرحم الثاني والدافئ بعد رحم الأم , فيه نولد ليكون هو طفولتنا المتشكّلة عبر الوقت بين أركانه , وهو ما نحمله من أسرار وحكايات , هو الكلمات الأولى التي بدأنا بها. ومنه بدأت خطواتنا الأولى أيضا .
ما زلت أتمثل ذلك البيت الطيني , المتكون من غرفتين , واحدة كبيرة لها سقف محدّب يسمى بالعامية ( سقف جمّالي ) من الخشب والاشواك والعشب ومغطى بالطين , وهي مخصصّة لعفش البيت والأغراض الأخرى , ولكلِّ افراد الأسرة . والغرفة الأخرى بسقف مسطح , ومخصصة للضيوف وأصدقاء والدي الذين يزورونه في فترات إجازته من العمل , وفي وقت تواجده بالبيت , لأنه كان يعمل موظفاً في بغداد في دائرة صحية , هي مديرية الأمراض المتوطنّة.
بعد سنوات , زرت القرية , وتعمّدت أن أذهب إلى بيتنا, فاستوقفتني الشجرة القريبة منه وهي مثقلة بخضرتها , تذكرت العرزال الذي عملته فوقها . أمّا البيت فرأيته وقد تحوّل إلى ركام , وأفترعت أحجاره الأعشاب والأشواك . وقفت اتأملها , وكأن شيئاً من روحي مدفوناً تحتها .
4 - الشاعر
كنت أنتزع الطين من حافة الساقية التي تمرُّ من أمام بيتنا , وأنتحي مكاناً قريباً من البيت, لا أحد من الأطفال يشاركني ذلك , أو بالأحرى لا أحبُّ مشاركتي من أحد , كنت أصنع منه اشكالاً مختلفة , كما يمليها خيالي , ثم أعجنها مرّة أخرى وثالثة, وأحاول أن أعيد تشكليها , بأشكال أخرى , لأجد فيها ما يرضي ذوقي ونفسي , وأتمثّل ما حولي إلى أشياء أحبّها وأتمنى أن تكون كما أرغب.
مرّة حاولت أن أشكّل من الطين حصاناً له جناحان , وحاولت جاهداً أن يكون قريباً إلى هيأة حصان , ووضعته تحت الشمس كي يجف , وعندما شاهده صدفة أبي قال : ما هذا ؟
قلت : حصان
فقال : حصان له أجنحه !
وضحك طويلاً, وسألني كيف يطير الحصان ؟ .
فأجبته : أنا أريد للحصان أن يطير . فتركني وهو يهز رأسه .
واليوم حين أتذكر ذلك أجد أن الطفل شاعرٌ بالفطرة , فالطفل له القدرة على تغيير العلاقات , التي تربط بين الأشياء , العلاقات المنطقيّة ، يفككّها، ويبعثرها, ثم يخلق لها علاقات جديدة بما تمليه عليه مخيلته . وما يريد أن يكون كذلك ، فيؤسّس عالمه على أساسها ، فهو ليس له غرض أو غاية يخطط لها مسبقاً في ذلك بقدر ما كان يبحث عن ذاته التي تتشكّل عبرها، ويكتشف العالم من خلالها , وكأنّه حقق ما يخلق لحظته يجد نفسه فيها منسجماً مع ذاته.
ذاته .