المتملِّقون
حسن النواب
بعد سقوط الوثن في ساحة الفردوس؛ ظهر على سطح المشهد الثقافي قطيع ثعالب من المتملقين مرَّةً أخرى، وهم من كانوا يلعبون الدور نفسه إبَّان النظام البائد؛ وهؤلاء يمكن تشخيصهم بيسرٍ من قبل أيِّ عابر سبيل، فهم يمارسونَ لعبتهم البرغماتية بدون أية وخزة ضمير، ومن أين يجيء لهم الضمير؟ وهم الذين احترفوا هذه الوظيفة الدنيئة بكل جدارة وبلا حياء، وهؤلاء أذكياء إلى حدٍّ ما، يتمتعون بوضاعةٍ مقيتةٍ، غير مبدئيين، نفعيين وجبناء، ولاعبين ماهرين يجيدون كل الأدوار، ويكرسونَ أقلامهم لمصالحهم الشخصية، وهم أفضل من يقوم بتزييف الحقيقة، ويقومون بدور هام وخطير في خداع وتضليل الرأي العام، فهم يزيِّفون الواقع برمَّتهِ مقابل مغانم شخصية ويضحون بالمصالح الحيوية للأمة والوطن في سبيل تحقيق أطماعهم الذاتية. وبما أنَّ هدفهم في العيش هو براغماتي(نفعي) في الأصل، فهم يعملون على خداع المجتمع بشتَّى الطرق والوسائل بحيث يخدمون في ذلك حياتهم البراغماتية، ويسعون إلى تجميد المفاهيم وفبركتها بحيث تخدم أهدافهم المرحلية، ويزينون الواقع بغية إقناع الطبقة المعذبة والمسحوقة كرامتها الإنسانية بما يخدم غاياتهم، وهم العدو اللدود للحقيقة؛ ويبذلون كل جهدهم حتى لا تظهر إلى الناس. هؤلاء يعرفهم الوسط الثقافي بدون أي جهد، فتراهم على الكراسي الثقافية والصحفية يمارسون هذه الانتهازية الوضيعة كل يوم؛ وبوسعهم أنْ يمسحوا أحذية المسؤول الرفيع وحرق البخور لهُ مقابل مكوثهم على تلك الكراسي المهانة. الشعب يمقتهم، لا ناموس في دمائهم ولا قطرة حياء على جباههم، بل أنَّ الغانية أشرف منهم بكثير.
بينما ترى خصال المثقف الثوري «الراديكالي» على العكس منهم تماماً؛ فهو إنسان مبدئي بطبعه و مبادئه و أفكاره، يتحمل كل شئ في سبيل مبدئه، شجاع وموضوعي، لا يبني حياته على شقاء الآخرين؛ بلْ يضحي بسعادته ومعيشته اليومية في سبيل تحقيق الأهداف الإنسانية، يرى سعادته في سعادة الآخرين، ناقد متحرك سلاحه الحقيقة التي يكرِّسُ كل حياته للكشف عنها وإظهارها للناس، يدرس الواقع كما هو؛ وبما أنَّ الواقع يسير وفق قوانين موضوعية خارجة عن إرادة الإنسان؛ ولكون الحقيقة تغير شكلها في كل مرحلة؛ لذلك فهو في بحث دائم عن الحقيقة ليكشفها حتى تصبح بذلك مناراً يسير عليه الناس. لا يقبل الظلم والقهر، إنسان كادح يبحث عن نقيضه، وهو يدرك تماماً بأنَّهُ إذا غاب القانون أو أوقف عن الفعل؛ تحوَّلتْ حياة البلاد إلى التعاسة والهوان. في حين ترى نظرة الناس نحو المتملقين مليئة بالشفة والاحتقار في آن واحد، لأنَّ المتزلفين يصرُّونَ على نهجهم الخسيس؛ ومع حصولهم على المكاسب والسحت الحرام من كل حدب وصوب؛ يظنون أنَّ تلك المكتسبات التي ظفروا بها ستشفع لهم من ممارسة ذلك الدور المنحط في حياتهم، لكنَّ الذي لا يدركونه أنَّ أطفالهم حين يكبرون سيمضون حياتهم في ذلٍّ وإهانة بسبب سلوك آبائهم الانتهازي والوضيع، وربما حتى نظرة الناس لأبنائهم ستكون مليئة بالشفة والاحتقار أيضا، برغم أنَّ الأبناء لم يرتكبوا تلك الانتهازية في حياتهم؛ وكل جريرتهم أنَّ آباءهم كانوا من المتملقين والمداهنين والمتزلفين، وبذلك يظلمون ذريتهم القادمة بسبب سلوكهم البرغماتي المهين في مسالك الحياة، صحيح أنَّ هؤلاء ينجحون في تحقيق شهواتهم وثرواتهم ويعيشون في بحبوحة ونعيم وافر على حساب ضمائرهم ورجولتهم، لكن هذه الامتيازات التي يحصدونها تتحول إلى جحيم أمام أنظار أبنائهم عندما ينضجون ويعرفون تلك الحقيقة الموجعة عن آبائهم المتملقين؛ وإذا ما أجرينا مسحاً سريعاً على الحياة الثقافية في البلاد، سنرى أنَّ كثيراً من هؤلاء يعشِّشون في المنطقة الخضراء ومجلس النواب وفي الوزارات والمؤسسات الثقافية والصحفية، وهم من أخطر المتزلفين الذين ترعرعوا على برغماتية فاحشة من نعومة أظفارهم، وليس عجباً أنْ نراهم يصافحون أعداء الوطن لتحقيق مآربهم، متى ما سنحت الفرصة لذلك. فاحذروا أيها الناس منهم وتجاهلوا حضورهم أينما تصادفوهم؛ لأنَّ هؤلاء المتملقين الثعالب، هم السبب الجوهري في الفساد والدمار والفوضى التي نراها مستفحلة في ربوع البلاد الآن.