فيكتور هوغو بين فتنة العتمة ودهشة الرؤى الليلية
جيمس هول
ترجمة: د. رمضان مهلهل / البصرة
بغض النظر عن كلّ شيء، كان الليل سمة مميزة للفن والفنانين الأوربيين. وقد تحولت مجموعة من مشاهد الليل في أواخر العصور الوسطى – وأجملها على الأرجح لوحة تاديو غادّي الرمادية التي تصوّر بشارة الرعاة في وهج من النور الإلهي (حوالي عام 1330) – إلى طوفان في القرن السابع عشر، عندما تخصص آدم إلسهايمر وجورج دو لا تور في مشاهد الليل ذات الإضاءة الخافتة، بينما سلّط كارافاجيو ورامبرانت الضوء على الوجوه وسط عتمة تكاد تكون ليلاً سرمدياً. فبإضاءة القمر، أو الشعلة، أو النار، أو الموقد، أو الشمعة، أو المصباح، مكّن الليلُ الفنانين من خلق الدراما والغموض والخوف والرهبة. وأصبح الإحساس أكثر سرية، مشبعاً بكثافة رؤيوية أو كابوسية. ولم يكن الأمر يتمثّل في جعل المساحات المعتمة تبدو ثقيلة أو عشوائية، فتتحول الرؤوس المتوهجة إلى أشباح أورفيوسية [نسبة إلى أورفيوس] طافية فوق بحار من القارّ. كان هذا أمراً شبه حتمي، إذ يمكن لطبقات متتالية من الورنيش ودخان التبغ أن تُحوّل أية لوحة إلى مشهد ليلي: ويصوّر هوغارت الزمن كشخصية عجوز تنفث دخان غليونها فوق لوحة فنية، في استعارة ساخرة لإظهار كيف أن الزمن يُلبِس الأشياء طابع القِدَم. لقد أضفى الزمنُ العتمة على لوحة "الموناليزا"، مما جعل والتر بيتر يصفها بمصاصة دماء و"السابحة في البحار العميقة" التي "تحافظ على نهارها الآفل".
تزامن ظهور المشاهد الليلية تقريباً مع موضة الفنانين في رسم اللوحات ليلاً. وكانت دراسات المنحوتات والمطبوعات والرسومات الأخرى ممكنة لأنها جميعاً وسائط أحادية اللون، مما جعل تشويه اللون بالضوء الاصطناعي غير ذي صلة. وعلى الرغم من أن السهر الليلي والصلاة كانتا من الممارسات الرهبانية الشائعة، إلا أن الرسم الليلي كان يحمل طابعاً عصرياً نخبوياً – حيث كانت النخبة فقط هي التي تستطيع تحمل تكلفة الشمع والزيت، وكانوا يسهرون بشكل متزايد بعد حلول الظلام من أجل القراءة والكتابة وعزف الموسيقى والتواصل الاجتماعي. إن الحوارات المتخيَّلة في بلاط أوربينو، التي تشكّل كتاب السلوك الذي هو بعنوان "رجل البلاط" لبالداسار كاستيجليوني، هي حوارات ليلية. ربما يكون النحات وصانع المطبوعات باتشيو باندينيلي، مصمم أول تصويرَين لأكاديمية فنية، قد التقى كاستيجليوني في روما في عشرينيات القرن السادس عشر. تُظهِر مطبوعاته طلاباً يرسمون بوقار ويفكرون بروّية أثناء الليل في غرف مُجهزة تجهيزاً جيداً بلا نوافذ، وهو أمر أصبح ممارسة معتادة في أكاديميات الفنون الرسمية. هنا، كانت أضواء الشموع والمصابيح الزيتية ولهيب مواقد الحطب تُلقي بظلال مشوهة ضخمة، وهي رموز تلاعب الخيال الفني وتجلياته. هؤلاء الساهرون هم فنانون بروميثيوسيون، أوصياء على النار ومتحكمون بها – وليسوا مجرد كادحين مُرهقين يُكافحون لصقل مهاراتهم والوفاء بالمواعيد النهائية. إنهم أيضاً بسطاء عفيفون. فباولو أوتشيلو، المهووس بالرسم المنظوري، كان يتجاهل توسلات زوجته بالذهاب إلى الفراش.
تُشير رسومات فيكتور هوغو (1802-1885)، التي لم يبقَ منها سوى حوالي 3000 عمل، إلى التقاءٍ مُتّقدٍ بين المشاهد الليلية والرسم الليلي. بدأ هوغو رسم الكاريكاتير حوالي عام 1830، ثم رسم مناظر طبيعية ومعمارية للترويح عن نفسه وكنوع من التمرين الروحي. جرى إنجاز هذه الرسومات، التي بدت جريئة من الناحية الفنية وتنطوي على المجازفة، أثناء أسفاره، في منزله مع زوجته وأطفاله، وأثناء جلسات تحضير الأرواح، لكن معظمها أُنجز على طاولة طعام عشيقته الدائمة، الممثلة جولييت درويه، التي لحقت به إلى المنفى في جيرسي وغيرنسي (1852-1870). وقلة قليلة فقط من الرسومات السبع والسبعين في معرض مُثير للإعجاب في الأكاديمية الملكية تبدو وكأنها رُسمت خلال النهار. فهي رسومات رحلات مبكرة، قطع معمارية صغيرة ورفيعة، ذات طابع قوطي، لكنها ليست خلابة بما يكفي لتُوصف "بالعتيقة" أو "الأثيرة". يُجرّدها ضوء النهار ويحيلها إلى أشياء "فقيرة، عارية، متشعبة"، وكأنها تشريح حيّ يكشف عن خراب مُخزٍ وإرهاق بنيوي عصبي. وكان مؤلف رواية "أحدب نوتردام" (1831) من رواد الدعوة إلى الحفاظ على المباني القوطية وترميمها، لكنه فنياً كان واقعاً في حبّ تدهورها وزوالها. وفي رسم أنجزه بعد هزيمة فرنسا على يد بروسيا عام 1871، يظهر عنكبوت قد نسجَ شبكته في ثقب في جدار مبنى مُدمر، يحجب رؤية مدينة بعيدة مهدمة. ومنذ العصور القديمة، شُبّهت العناكب بالكتّاب، فهم ينسجون شبكات من الكلمات من صنع أيديهم.
كان وقت الغسق هو الوقت المفضّل لدى هوغو. طبقات رقيقة من الحبر البني، بضربات فرشاة عريضة، وأحياناً على ورق مبلل، تكسو مناظر طبيعية غامضة وغير مأهولة، تعود إلى حقبة ما بعد نهاية العالم، ومبانٍ مهجورة. لا بد أنه وجد صلة قرابة مع فن الميزوتينت – المعروف بـ "الأسلوب الإنكليزي" – بألوانه السوداء المخملية وخلفياته الداكنة، وصوره الفوتوغرافية ذات الدرجات البنية (وفي العام 1852، جهّز غرفة تحميض في منزله من أجل أبنائه). في العام 1837، كتب هوغو إلى زوجته أديل: "لطالما أحببت هذه الرحلات عند الغسق. هذه هي اللحظة التي تتخذ فيها الطبيعة أشكالاً غريبة وتصبح خيالية". في نهاية المطاف، صار يرسم عند الغسق كل ما يراه، أو يتخيل أنه يراه، على الجدار أمامه، متبعاً أسلوباً توليدياً أوحت به تقنيات ليوناردو وطريقة ألكسندر كوزينز، وهو أسلوب يقوم على بقع الحبر العشوائية. كما كتب جيرارد أودينيه في الكتالوغ الرائع للمعرض، اكتسب الغسق أهمية خاصة أثناء كتابة المسودة الثانية من رواية "البؤساء" عام 1847: "الغسق هو ساعة القدر". وفي العام 1849، ربما قرأ هوغو مقالاً عن استوديوهات الفنانين في مجلة "لو ماغاسان بيتوريسك" Le Magasin pittoresque أشاد فيه بطبعة أكاديمية باندينيلي الثانية، معتبراً إياها الصورة المثالية لـ "ملاذ الفن" الصامت الذي "ينتج أعمق الأفكار"؛ وكان هذا على النقيض تماماً من الصخب الذي كان يسود الاستوديو البوهيمي المزدحم خلال النهار.
وأثناء وجوده في المنفى، صنع هوغو بطاقات زيارة مصورة لأصدقائه في فرنسا، حيث تلتصق حروف اسمه المنتفخة على الأسطح كالبزاقات أو الأشنات أو كتابات الغرافيتي، في تجسيد لنرجسية طفيلية طبيعية تجعله في آن واحد غير مرئي وموجوداً في كل مكان. وفي واحدة من سلسلة رسوماته المتعلقة بروايته في غيرنسي "عمال البحر" (1866)، تشكّل أطرافُ أخطبوطٍ عملاق حرفَي V وH، سواء كان ذلك سخرية (أي أنك أنت العشاء!) أو كإشارة إلى الهوية، فالأمر يبقى غامضاً. ويبرز رسم رائع لفطر، يلوح في الأفق في مشهد قاحل كغمامة نووية، بفضل ألوانه الخضراء والحمراء والبيضاء المرسومة بألوان الغواش gouache، وبفضل صورة ذاتية محتملة مُدرجة في جذعه. ويُذكرنا هذا الرسم بأولئك المنتحرين في ملحمة دانتي، الذين تحوّلوا إلى أشجار شائكة ملتوية في غابة مظلمة، تتغذى عليها طيور الهاربي الأسطورية Harpies.
إن "الكآبة" في الرواية القوطية (عند هوراس والبول) وفي لوحات هنري فوسيلي تحتضن الجنس والرغبة الجامحة، إلى جانب القتل والاغتصاب والاختطاف. لكن فطر هوغو الإيحائي يمثل استثناءً في نواحٍ عديدة، إذ إن الليالي التي يصورها تكون في الغالب زمناً للعقم واللامعنى، بدلاً من أن تكون لحظات خصوبة وتجدد ذات طابع مميز. ففي رسمة ضخمة لافتة للنظر حُوّلت إلى مطبوعة بعنوان "القلعة ذات الصليب"، تُعامَل أبراج القلعة كجُلْجُثة Golgotha أخرى، لا كأماكن قابلة للسكن والحياة مثل كاتدرائية نوتردام لكوازيمودو، التي وصفها هوغو بأنها "البيضة، والعش، والمنزل، والوطن والكون". وفي النهاية، تصبح "الكآبة" البصرية لدى هوغو منهِكة. فهي فنّ على هيئة مسوح ورماد، وتوبة، وإخصاء، وعفّة، كل هذه تُمارَس على طاولة عشيقته قبل انحداره اليومي إلى الزنا. أما التصميمات الداخلية التي أبدعها في "منزل أوتڤيل"، مقرّ إقامته العائلي في جزيرة غيرنسي، فهي أكثر ثراءً بألوانها وفخامتها.
عنوان المعرض، "أشياء مدهشة"، مُقتبس من مدح فينسنت فان جوخ لفيكتور هوغو في رسالة إلى ثيو. إلا أنه كان يُشير إلى الروايات لا إلى الرسومات، التي من غير المرجح أنه رآها. ومن المفارقات أن فان جوخ يُبرز طابعها الكئيب بعض الشيء. فقد استخدم الليل كمحفز لتشويه الألوان بطريقة تعبيرية. وكتب بعد ثلاث ليالٍ قضاها في الموقع وهو يرسم لوحة "مقهى الليل": "لقد حاولتُ التعبير عن المشاعر الإنسانية باللونين الأحمر والأخضر". وقد تبنّى المستقبليون هذا التحدي، فحرّموا التمسك بالماضي الرومانسي، والمناظر الطبيعية، وضوء القمر. وبدلاً من ذلك، عبدوا الضوء الحضري الاصطناعي: "كيف لا يزال من الممكن رؤية الوجه البشري وردياً، الآن، بعد أن تشعّبت حياتنا بفضل السهر الليلي، قد عمّقنا إدراكنا كفنانين مولعين بالألوان؟ الوجه البشري أصبح أصفر، وأحمر، وأخضر، وأزرق، وبنفسجياً. إن شحوب امرأة تحدّق في نافذة متجر مجوهرات هو أكثر تألقاً من بريق الجواهر المنشوري، الذي يأسرها كما تأسر الأضواء طائر القبرة". باختصار، الحداثة صلبت الكآبة.
المصدر: ملحق التايمز الأدبي، 9-5-2025.