سردية الماء في رواية المنسيون بين ماءين للكاتبة ليلى المطوّع
إبراهيم رسول
تأخذنا الكاتبةُ البحرينيةُ المبدعة ليلى المطوّع في رحلةٍ مائيةٍ, نخوضُ معها مغامرة السباحة في فضاءاتٍ ثقافيّةٍ مُتنوّعةٍ, ونقرأُ معها التاريخ والحاضر برؤيةٍ أنثويةٍ, تستعيدُ التاريخَ لتأخذَ منهُ العِبر والعِظات وتُعيد صناعة الواقع وفق ما تراهُ ينفعُ الإنسان في الواقعِ الجديد الذي يعيش إرهاصاتهُ وتحولاتهُ المُتواصلة, عصر صناعة كُلّ شيء, ولكنَّ الكاتبةَ تُمارسُ هذه الصناعة عبرَ مُخيّلتها الخلّاقة التي تُجيد نسج الحكايات, بينَ الذاكرة والماء تكمنُ العديد من الدلالاتِ التي نحاولُ أنْ نستحضرها ونكشف جمالها العميق بعدَ أنْ نمضيَ معها في رحلة الكشف والجمال, وكأنَّ الأشياءَ المُوغلة بالقدمِ تبدو قيمتها عالية, هي تضع ( بين) لتحصرَ أولئكَ المنسيونَ, هذه الاستعادةُ الإيجابيّةُ كانتْ تحمل في طيّاتها فرصة لقراءةِ الواقعِ الراهن برؤيةٍ ناقدةٍ, والنقد يعني الإصلاح والترميم والتنقية, هذه الروايةُ عالمٌ فسيحٌ وكبيرٌ من الخيالِ الذي يأخذ من الواقعِ أيضًا كقنطرة عبورٍ نحو الضفة الأخرى, فالسردُ لا يأخذ شكلًا بعينه, بلْ تميلُ الكاتبة إلى ربطِ الواقع مع الماضي بما تحمله من خيال في مخيلتها, فهي تمارسُ صناعة وتكنيك بنائي لتنتج عالمها الخاص وفق تصورها, لتنتجَ لنا رواية تأخذنا معها في خيالها وفي واقعها, هذا النمط الكتابي الإبداعيّ نجحَ عندَ فِئة المُبدعين, الذينَ لديهم سِعة معرفة فيما يكتبونَ وفيما يستحضرونَ وكيفيّة يوظفونَ ما يعرفونَ, هنا نقرأ تاريخًا متخيًلا وواقعًا مرمزًا, نقرأُ روايةً لا يسعنا إلَّا أنْ ننفصلَ على العالمِ فيما حولنا, ونذهب معها في رحلتها الطويلة الممتعة والشاقة, هذه الرحلة الثقافيّة, ليست للمتعةِ فحسب, بلْ لوقوفِ عندها طويلًا, هي تبلغُ من السِعة ما يجعلها تأخذ من الوقت ما تأخذه, إلَّا أنَّكَ مُجبرٌ بينَ إما أنْ تتركها وتتناول غيرها, وإما أنْ تتأمَّلَ فيها وتقرأها بإمعان, لأنَّها روايةٌ نخبويةٌ بامتياز, ولا أعتقد أنْ تمضي في القراءةِ من دونِ أنْ تضعَ مسوّدة تُدوّن فيها قائمة الأسماء وأوصافهم والأحداث المهمة, لتربطَ بين السرد, لأنَّها عالمٌ مُتداخلٌ ومشتبكٌ, لا مجالَ للاستراحةِ فيه, الاستراحةُ في النهايةِ بعد إكمالها كلّها, عندها لا بُدَّ لكَ أنْ تُرجعَ إلى المُسوّدة التي وضعتها لتستعيد الأحداث وعندها ستكونُ الرواية قد وصلت إلى ذوقك وعقلك بالصورةِ الإيجابيّة, لأنَّ تلقي الأدب الكبير, يحتاجُ إلى مُتلقٍ نوعيٍ, لا يقفُ عندَ النصِ المُباشر, بلْ يدخل إلى عمقِهِ, ويُمارسُ لُعبة الغوص بين عوالمها الجوانيّة المُضمرة, فالغموضُ يعتري الرواية في وجهٍ منها, وهذا الغموضُ الذي يحببه مُنتج النّص إلى مُستهلكِ النّص, هو غموضٌ المُتعة لا غموض الفكرةِ.
العنوانُ ثُريا النص, كما يقول رولان بارت, فالعنوانُ هو ماءُ العمل الإبداعي, لأنَّ عتبته تقف في المقدمةِ, وحينَ وضعتِ المبدعة ليلى المطوّع هذا العنوان, فهي قدْ جعلتْ منهُ حمّال أوجه كثيرة, الماءُ نبعٌ قابلٌ للتجددِ والتمددِ والانفتاحِ, فهو في وجهٍ من الوجوه يُشير إلى حالةِ التشتتِ وعدمِ الثباتِ والاستقرارِ التي هي صفةٌ من صفاتِ الماء, ويُشيرُ إلى صراعٍ بينَ شيئينِ, يتصارعانِ في الإنسانِ, فتسببُ الاضرابات والتحديّات, لهذا فانفتاح العنوان وسيولته, جعلته باباً للتأويلاتِ الكثيرةِ, وهذا ما يجعل القارئ يقف عنده قبلَ مُحاولته الكشف, فالرواية بما فيها من قدرة تخييلية لكنَّها لها قدرة على تصويرِ الواقع بمرآة تحمّل العديد من التأويلات, لذا لا يقف العنوان على دلالةٍ واحدةٍ يكتفي بها, فهي روايةُ عدم الثبات على وجهةٍ واحدة, النسيانُ والماءُ دلالة التشتت والضياع والهوية المزدوجة غير المستقرّة, هنا يكونُ الصراع والتلاشي والقلق, فالأرض رخوةٌ وغير صلبة, بين المنسيون والماءين تصنع الكاتبة التاريخ الذي تُعيد كتابته بما تراه بعينِ وعيها ومعرفتها بما لديها من ذاكرة وبما لديها من مُخيلة تُعيد إنتاج ما يُوجد في الذاكرةِ, تقول:
لتعبريه, عليك أن تقربي وجه الماء, فلن تعبري البحر إلَّا إذا عرفتيه._ الرواية: 22), والمعرفةُ هنا شاملة واسعة, لا تقف عند ممارسة فعل السباحة, بلْ لا بُدَّ من معرفة عالم البحر, فالنجاةُ بالمعرفةِ, وهنا تقف الكاتبة موقفها العقلانيّ, الذي قولبته في قالب الأدب, لكيْ يستمر بالتجددِ, وتقول أيضًا: أنا الطائر الحزين, كلما قلّ الماء, بان الحزن على وجهي.( الرواية: 429), قلة الماء تعني في وجهٍ منها, قلة المعرفة والعلم بالشيءِ, هذا ما حصل في الرواية, نلحظ هذا في الشخصيتينِ المُهمتينِ؛ ناديا وسليمة زوجة صفوان, لهذا تبدو عملية تصنيف الرواية صعبة, حيثُ أنَّها تضمُ مواضيعَ جغرافيّة وتاريخيّة وثقافيّة, فهي كونٌ روائيٌ واسعٌ.
تحكي الروايةُ عن المجتمعِ بما فيه من تناقضاتٍ قارّة, هذه التناقضاتُ مُستمرّة وستستمرّ, لأنَّ الحِراكَ الاجتماعي بينَ جيلينِ, سيستمر ومن هذا الحِراك يستمرُ المجتمعُ في تطوّرهِ, بينَ القديم والجديد, تقف الرواية في المُنتصفِ, لتعطي أهمية لكليهما, فهي لا تنفي التاريخ ولا تُلْغيه, ولا تركن إليه بالمطلق, فهي تُعيده بما يجعل مِنهُ مادة نافعة في الواقعِ, وهنا تبدو إنتاجيّة الفعل الثقافي الذي تقدمه الكاتبة, التوازنُ أفضل ما يمكنُ للمرءِ أنْ يناله, لأنَّه أساسُ الاستقرار, فهي حين جعلت من البحر الفضاء الجغرافي, الذي يدلُ على حالة التغير, يقفُ المكان ( جزيرة أرض الخلود), موقفًا إيجابيًّا في عالم الرواية, لأنَّ الكاتبةَ أعطت وظيفة بنائيّة لكلِّ عنصرٍ مكانيٍ أو زمانيٍّ, لهذا نجدُ للمكانِ وظيفة مركّزة, لأنَّهُ تجاوز وظيفته السردية ليصبح له وظيفة في تفاعل الشخصيات عليه.
ثَمّةَ سؤالٌ يلح, وهو لماذا عدم الثبات هذا؟ لماذا الخيار بين وبين, بينَ الحياة أو الموت, المالح أو العذب, السكون أو التحرك, والجوابُ, أنَّ الروايةَ معنيةٌ في إبراز الصراع بين البين تلك, هذه ال ( بين ) التي تضعها, هي صورةُ الحياة الجديدة, التي تفتقرُ لليقين, وتميلُ إلى الشك الذي يؤدي إلى القلق المستمرّ, هذا القلقُ صفة الحياة الجديدة والمعاصرة, إنَّه القلقُ الدائم, على الواقعِ والمستقبل, قلقُ الوجود وعدمه, لهذا تجيء رمزية الماء بهذا الانفتاح التأويليّ, فأنت لا تصل إلى وجهٍ واحدٍ, هذا التعدد هو حالة الضياع والتردد, وأحسبُ أنَّ ميزةَ العمل الإبداعيّ, يكمنُ في هذا الاشتغال غير النمطي, لأنَّ الرواية النوعيّة, تعتمدُ على التوتر والشد والجذب, لتكسر الرتابة والترهل, ويحدث التفاعل الإيجابي مع القارئ, لأنَّ القارئ يُريد قراءة المغامرات, ولا يريد المباشرة الواضحة الصريحة, لهذا تبدو المهمة أصعب على المبدعةِ, لهذا يجيء الماء بوصفه موضوعًا سرديًّا, وحسنًا فعلتْ بهذا التمدد وهذه السيولة التي تحمّل الأوجه العديدة في الدلالةِ.
التأمَّلُ في دلالة جزيرة أرض الخلود, يقفُ القارئُ في تأمَّلٍ, لماذا يقفُ الإنسانُ في جزيرةٍ وتحيطه المياه من كل جانبٍ؟ إلى ماذا يرمز المكان, فالماء ُ سرُ الحياة لكنه في وجهٍ آخر, سر الموت أيضًا, وترجيح الحياة على الموت في هذه الرواية, يكمن في المعرفةِ في عالم البحر, بمدهِ وجزرهِ, هذه المعرفة نجاة للمبحر أنْ يعبرَ إلى ضفة النجاة, فهذه الرواية يبدو أنَّها من العمقِ لا تكتفي بقراءةٍ واحدةٍ, لأنَّها تغوصُ في عالمٍ له من السِعة, ما يجعله يتجاوز القراءة الواحدة إلى قراءةٍ أخرى, وهذه الأخرى لا تقفُ عند ظاهر التفاعل, بلْ في المحركِ الأساسي والكيميائي للشخصيات, وما يحدثهُ التفاعل في البناء الدرامي للقصةِ الكاملة.
سردية الماء, تعني أنَّ الماءَ يعد العنصر الرئيسي والمُهيمن في الأحداث, عبر المجاز والواقعي, ولأنَّ للماءِ عالمٌ متكاملٌ يشمل حتَّى الأساطير, فكثيرة ٌ هي الأساطير التي نُسجت في الماء أو حول الماء, وهو يرمزُ إلى كثيرٍ من الأشياء, منها الأمل, المستقبل, التحول, التحرك, التجدد, التقدم, التطور, التنمية, التطهر, الفرح, ولكنه يحملُ في طيّاتهِ الموت, والقلق, والخطر, هذه الثنائية في المعنى, جعلت الكتابة تتمدد وتتسع لتصل إلى ما وصلت إليه, فهي فضاءٌ منفتحٌ على سعةٍ كبيرةٍ, وهذه ميزةُ الأدب الجيّد الذي يستمرّ بالتجددِ من تلقاء نفسهِ.
تبدو هذه الرواية, بما تحملهُ من عوالم بنائية متخيلة أو واقعية, هي تمثلُ احتياج الحياة إلى الاثنين معًا لتستمرَ وتتواصلَ, وإلَّا إذا أصبحت الحياة كلها واقعية ستفقد الكثير من رونقها, هي تقفُ على دعامتين, دعامة المجاز والحقيقة, دعامة السكون والتحرك, الحياة والموت, الوجود أو العدم, الشك واليقين, هذه كلها هي عوالم بنائية عملت عليها الرواية, وخرجت بهذا الشكل الأقرب إلى التكامل.