الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الاقتصاد الدائري: رؤية سياسية للخروج من دوائر الفشل

بواسطة azzaman

الاقتصاد الدائري: رؤية سياسية للخروج من دوائر الفشل

 طالب محمد كريم
في تأمل بسيط لمسار الأحداث، نكتشف أن ليس كل ما يتحرّك يتقدّم، ولا كل ما يرتفع يصعد نحو الأفضل. فالتاريخ لا يسير على خطوط مستقيمة، بل يدور في حلقات متشابكة. والسياسة لا تُدار بمجرد إصدار القرارات، بل بفهم تعقيد العلاقات، وتوازن القوى، واستعادة الثقة في دائرة متشابكة لا تُختزل في الورق. وفي عالم يعيد إنتاج أزماته بتقنيات مختلفة وأدوات مألوفة، نكون بحاجة إلى عقلية لا تُبدّد ما تملك، بل تعيد تدويره.

في حياتنا اليومية، نعيش كما لو كنا نسير على خط مستقيم: (نأخذ، نستهلك، نرمي. نُخطئ، نبرّر، ننسى). ثم ( نطالب، نعارض، حتى نعود إلى النقطة الأولى وكأن شيئاً لم يكن).
هذا التوهم الخطي لا يسود فقط في عاداتنا الاستهلاكية، بل ينسحب على تفكيرنا السياسي، واجتماعنا، وخطابنا، بل وحتى في كيفية معالجتنا للأزمات.
لكن، ماذا لو لم تكن الحلول في مواصلة التقدم وحده، بل في أن نُعيد الترتيب، نعود بتأمل، وندور بالفكرة قبل أن ندور بالمادة؟
هنا تدخل فكرة (الاقتصاد الدائري)و(التسويات الذكية)كمفتاح جديد لفهم العالم وإصلاحه.

كما هو معروف في أدبيات البيئة والهندسة، يقوم الاقتصاد الدائري على مبدأ إعادة استخدام الموارد بدلاً من استنزافها. وليس الهدف مجرد الحفاظ على البيئة فقط، بل في استعادة المنطق الكوني البسيط: حيث لا شيء يُهدر، وكل شيء يعود، بطريقة أو بأخرى، إلى الحياة. هذه الفكرة التي بدت في البداية وكأنها إصلاح تقني لآليات الإنتاج، تحوّلت اليوم إلى رؤية فلسفية شاملة. أي أنه إذا تأملنا جيداً، نجد أن الدائرة ليست مجرد شكل هندسي، بل نسق فيزيائي، وبنية حياتية، وطريقة في التفكير تصلح حتى في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

أدعوكم إلى أن تفكروا معي في مثال بسيط: ثلاثة أشخاص، كل منهم يَدين للآخر بمبلغ متساوٍ. أ يطلب من ب، وب يطلب من ت، وت يطلب من أ. يبدو المشهد معقداً. لكن حين حرّك أحدهم مبلغاً بسيطاً ودار بين الثلاثة، تم إغلاق سلسلة الديون، وانتهت الالتزامات دون أن يُدفع كل شيء من جيب أحدهم. هذا هو جوهر (التسويات الذكية): ليس بالضرورة أن تُسدّد كل الديون نقداً، بل يكفي أحياناً أن تفهم العلاقات جيداً لتعيد تدوير الالتزام بطريقة تغلق الحلقة.

في السياسة أيضاً، لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً. فالكثير من أزمات الدول اليوم لا تنشأ عن قلة الموارد، بل عن سوء تدويرها. كل طرف يُطالب بما يراه حقاً له، دون أن يتأمل ما عليه. السلطة الاتحادية في بغداد تتهم الإقليم بالتقصير، والإقليم يتهم بغداد بالهيمنة، والشعوب تتهم الحكومات بالفشل، والحكومات تتهم الشعوب بعدم الصبر. الجميع على حق، والجميع في الدائرة نفسها. هنا تكمن الأزمة: لا أحد يريد تحريك العشرة الأولى التي تُحرّك الدورة كلها.

في العراق مثلاً، يتكرّر الصراع السياسي والاقتصادي بين بغداد وأربيل على ملفات الرواتب، والنفط، والصلاحيات. وكل طرف يتعامل مع الآخر وكأن المشكلة (خارجية)، بينما هي في العمق ناتجة عن غياب التدوير الذكي للثقة، والسلطة، والموارد. فلا بغداد تعيد إنتاج شرعيتها بشكل متجدد، ولا الإقليم يعيد طرح مطالبه بمنطق تكاملي. فبدلاً من أن يُعاد تدوير الإيرادات والمصالح بين الطرفين لصالح بناء الدولة، يتم تدوير الشكوك والتجاذبات، لتبقى البلاد عالقة في دائرة الصراع المفتوح بلا نهاية. دائرة تستهلك الجميع، ولا تُنتج إلا مزيداً من التآكل.

لكن دعونا ننظر في نموذج آخر، أكثر تماسكاً، لنفهم كيف يمكن للدائرة أن تكون منتجة لا مفرغة. ولعل تركيا تمثل حالة مثيرة للاهتمام في هذا السياق.

في بدايات حكم حزب العدالة والتنمية، بدا أن هناك نوعاً من (التسويات الذكية)التي مكّنت البلاد من الخروج من أزماتها القديمة. إذ لم تُلغَ مؤسسات الدولة بل أُعيد تدويرها، وتوجيهها نحو الإنتاج والعدالة الاجتماعية. حيث تم تدوير البيروقراطية، والخطاب العام، والتحالفات الداخلية، بطريقة عززت الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي. حتى أصبح الاقتصاد أكثر انفتاحاً، والبنية التحتية أكثر كفاءة، والنظام السياسي أكثر شمولاً لفئات واسعة من المجتمع كانت سابقاً مهمشة.

لكن بعد العام 2013، ثم الانقلاب الفاشل في 2016، دخلت تركيا في دورة جديدة، لا تدور نحو الأمام، بل نحو الداخل. بدأت النخبة السياسية تعيد إنتاج نفسها بنفسها، وتُدوّر الخطاب الأمني والقومي والديني لتثبيت السلطة. بمعنى أنها عملت على إعادة تدوير الأزمات بدلاً من تفكيكها، فصارت الخلافات تُستخدم كأدوات سياسية، لا كدعوة إلى الإصلاح. عندها فقد الاقتصاد توازنه، وتقلّصت الهوامش الديمقراطية، وتراجع القضاء والإعلام، في ما يشبه التدوير المغلق للشرعية.

ما يلفت الانتباه في النموذج التركي أنه يُبيّن بوضوح أن (الدائرة)يمكن أن تكون قوة دفع، أو أن تتحول إلى قيد إذا أُديرت بشكل خاطئ. حيث ما كان في بدايته اقتصاداً دائرياً ينتج النمو، أصبح لاحقاً (نظاماً دائرياً)يعيد تكرار ذاته في أزمةٍ متكررة.

كذلك في الفكر الفلسفي، نجد جذوراً لهذه الرؤية. إذ يشير ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، إلى أن التاريخ لا يتقدّم بخط مستقيم، بل يسير في دورات تبدأ بالنشوء، ثم القوة، فالترف، فالفساد، فالسقوط. التاريخ، عنده، لا يمضي دائماً إلى الأمام، بل يدور. وإذا لم نفهم منطق هذه الدورة، سنعيد تكرار الأخطاء نفسها، لأننا سنظن أن الحل في التسارع، لا في التأمل.


أما في السياق المعاصر، فقد طوّر إدغار موران هذا الفهم الدائري من زاوية معرفية شاملة؛ لأنه أعاد إحياء هذه الرؤية من خلال تفكير مركب، ناقداً الفهم الخطي للأحداث، وداعياً إلى منظور شبكي يرى أن كل عنصر يُغذي الآخر ويؤثر فيه. وفي تصور موران، لا يمكنك أن تفصل السبب عن النتيجة بسهولة، لأن كل نتيجة تصبح سبباً لاحقاً، وكل فعل يخلق أثراً يرتد عليك. هذه الفكرة تجد ترجمتها الواقعية في السياسات التي تُنتج الكراهية، فتُولد العنف، حتى يُبرر القمع، فيُعيد إنتاج الكراهية. إنها حلقة جحيمية لا تنكسر إلا بتغيير في طريقة التفكير، لا فقط في الأدوات.

في النهاية، لا أعتقد أننا بحاجة دائمة إلى (أفكار جديدة)، بل نحن في حاجة إلى طرق جديدة في استخدام الأفكار القديمة. هذه قناعتي التي تزداد وضوحاً كلما تأملت العالم من حولي، هو عالم متصل، متشابك، لا أحد فيه يستطيع أن يعيش أو يحكم أو يُصلح وحده.
ومن هنا فإن الاقتصاد الدائري، كما أفهمه، والتسويات الذكية، كما أتطلع إليها، ليستا مجرد أدوات تقنية أو حلول مرحلية، بل عقلية كاملة. عقلية تقول – وأقول معها – إن علينا أن نعيد النظر، نعيد التدوير، نعيد التواصل، نعيد التوزيع، نعيد بناء الحلقة بدل أن نُكسّرها بعنادٍ قاتل، كلما عجزنا عن فهمها.

وربما، لو فكرنا، لا كصُنّاع قرارات فقط، بل كبشر أيضاً، بالدائرة لا بالخُطّ المستقيم، لاكتشفنا أن الحل لم يكن يوماً بعيداً. إنه يدور حولنا، في حركة خافتة، ينتظر فقط أن نمتلك الشجاعة لاختياره، وأن نُعيد تشغيله.


مشاهدات 180
أضيف 2025/06/07 - 4:43 PM
آخر تحديث 2025/06/07 - 10:03 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 406 الشهر 5778 الكلي 11140432
الوقت الآن
السبت 2025/6/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير