الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قرار العباءة في بغداد: بين الاعتراف بحرية اللباس والتدخل غير المبرر في التفاصيل

بواسطة azzaman

قرار العباءة في بغداد: بين الاعتراف بحرية اللباس والتدخل غير المبرر في التفاصيل
قراءة تحليلية في قرار مجلس محافظة بغداد رقم (38) لسنة 2025
محمد عبد الجبار الشبوط


أصدر مجلس محافظة بغداد بتاريخ 3 حزيران 2025 قراره رقم (38) القاضي بـ”السماح بارتداء العباءة العراقية الإسلامية من قبل بعض الموظفات والطالبات في المدارس، واعتبارها زيًا رسميًا محترمًا ومقدّرًا”.
القرار، من حيث الشكل، لا ينص على إلزام أو فرض، بل يقرّ بخيار موجود اجتماعيًا ويمنحه شرعية إدارية. ومع ذلك، فإن تحليلًا أعمق لهذا القرار يكشف عن إشكالية مؤسسية في طريقة تعاطي السلطات المحلية مع الحريات الفردية، خصوصًا حين تتدخل بتفاصيل رمزية تمسّ حرية الجسد والهوية.
أولًا: مضمون القرار – السماح لا الفرض
من المهم الإشارة بوضوح إلى أن القرار لا ينطوي على إلزام أو عقوبة أو تقييد مباشر، بل يمنح “السماح” بلباس معين ضمن الفضاء التعليمي الرسمي. وبالتالي، هو لا يتقاطع من حيث النص مع مبدأ الحريات الفردية كما نص عليها الدستور العراقي.
لكن، هل كل ما لا يفرض هو بالضرورة حيادي؟ وهل “السماح” بلباس معين يحمل دلالة رمزية أو سياسية؟ هذه الأسئلة تقودنا إلى التحليل الأعمق.
ثانيًا: الحريات الشخصية في الدستور العراقي
ينص الدستور العراقي في مادته (42) على:
“لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة.”
وفي المادة (17):
“لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع الحقوق العامة والآداب العامة.”
هذه المواد ترسم إطارًا عامًا للحريات الفردية، وتؤسس لمبدأ أن اللباس خيار شخصي، ما دام لا يخلّ بالآداب العامة أو يهدد النظام العام. من هذا المنظور، فإن تعزيز حرية اللباس لا يحتاج إلى ترخيص مسبق، بل فقط إلى ضمان عدم التمييز أو التضييق.
ثالثًا: رمزية القرار ومخاوف التدخل الناعم
حتى لو كان القرار شكليًا “سماحيًا”، فإنه ينطوي على تدخل مؤسسي في تحديد ما هو اللباس المحترم والمقدّر داخل المؤسسة التعليمية. هذا بحد ذاته إشكالي لعدة أسباب:
يعطي امتيازًا ثقافيًا لرمز معيّن (العباءة) دون غيره من أشكال اللباس المحتشم.
قد يتحوّل “السماح” الإداري إلى ضغط اجتماعي غير مباشر على الطالبات والموظفات.
يُرسّخ تصورًا أن الدولة مسؤولة عن ضبط المظاهر الدينية داخل المدارس، بدل أن تركز على الجودة التربوية والعدالة التعليمية.
رابعًا: وجهة النظر البديلة – ما كان ينبغي قوله
وفقًا لقراءة نقدية متزنة، فإن الصيغة الأجدر بالسلطة المحلية كانت:
“يؤكد مجلس محافظة بغداد على احترام حرية الطالبات والموظفات في اختيار لباسهن، ما دام ضمن ضوابط الحشمة والآداب العامة، دون فرض أو تمييز.”
هذه الصيغة تحقق ثلاث مزايا:
تحترم التعددية الثقافية والدينية للمجتمع العراقي.
ترفع الحرج عن أي خيار شخصي محتشم، سواء العباءة أو غيرها.
تمنع التمييز المؤسسي أو الاجتماعي بناءً على شكل اللباس.
انني ارى إن تدخل مجلس المحافظة بهذه الطريقة التفصيلية لم يكن ضروريًا، لا من حيث القانون، ولا من حيث الوظيفة المؤسسية. فالحريات الفردية لا تحتاج إلى قرارات ترخيصية، بل إلى إرادة سياسية لحمايتها. وكان الأجدر بالمجلس أن يُصدر بيانًا عامًا يؤكد على احترام جميع خيارات اللباس المحتشم، بدل تسمية شكل محدد ومنحه رمزية خاصة.
خامسًا: ما بين الحريات والهوية… أين تتوقف يد الدولة؟
الدولة الحديثة لا تُبنى على فرض الرموز أو تمجيد أنماط اللباس، بل على:
ضمان العدالة والمساواة أمام القانون.
احترام التعدد داخل المجتمع.
الامتناع عن التورط في “صناعة الهوية” من فوق.
ففي مجتمعات متنوعة دينيًا وثقافيًا مثل العراق، أي تفضيل رسمي لشكل معين من اللباس قد يُحدث استقطابًا لا حاجة له، ويفتح الباب لاشتباكات غير ضرورية بين الخصوصية والسلطة.
رغم أن قرار مجلس محافظة بغداد (38 لسنة 2025) لا يُلزم ولا يمنع، إلا أنه يُمثّل نموذجًا على الطريقة التي قد يتحول فيها “السماح” إلى “إشارة سلطوية ناعمة” لها تبعات رمزية.
ومع الاعتراف بأهمية الرموز الثقافية في المجتمع العراقي، تبقى الأولوية للدولة هي حماية الحرية بوصفها الأصل، لا تقييدها ولا ترشيدها ولا ترميزها.
في النهاية، لا كرامة للهوية دون حرية، ولا احترام للثقافة دون احترام للفرد.


مشاهدات 78
الكاتب محمد عبد الجبار الشبوط
أضيف 2025/06/06 - 7:31 PM
آخر تحديث 2025/06/07 - 4:51 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 110 الشهر 5482 الكلي 11140136
الوقت الآن
السبت 2025/6/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير