تجارب القرن العشرين
محمد عبد الجبار الشبوط
شهد القرن العشرون تحولات سياسية واجتماعية عميقة، وتنوعت التجارب في محاولة إقامة دولة حضارية حديثة (د ح ح) قائمة على منظومات قيمية وسياسية مختلفة، كان أبرزها المحاولتان الشيوعية والرأسمالية.
المحاولة الشيوعية
انطلقت هذه المحاولة من مبادئ الماركسية التي تتبنى عدة مقولات رئيسية: إنكار الدين باعتباره أفيون الشعوب، إلغاء الملكية الخاصة لتحقيق العدالة الاجتماعية، تطبيق دكتاتورية البروليتاريا كمرحلة انتقالية نحو مجتمع شيوعي لا طبقي، وقيادة الحزب الشيوعي للدولة والمجتمع. حققت هذه التجربة نجاحات كبيرة في بداياتها، خاصة في بناء بنى تحتية صناعية وتعليمية، ورفع مستويات التنمية في بعض البلدان. لكنها عانت في جوهرها من مشكلات عدة، منها القمع السياسي، غياب الحريات، وتعثر الأداء الاقتصادي، مما أدى إلى انهيارها النهائي في أواخر القرن العشرين، وسقوط المعسكر الشيوعي.
المحاولة الرأسمالية
أما المحاولة الثانية فتمثلت في النظام الرأسمالي الليبرالي، الذي يقوم على قيم العلمانية، فصل الدين عن الدولة، الحرية السياسية، السوق الحرة، والديمقراطية كنظام سياسي لتداول السلطة. نجحت هذه المنظومة في تحقيق نمو اقتصادي سريع وابتكارات تكنولوجية هائلة في دول كثيرة، خاصة في الغرب، كما أثرت على النظم السياسية والاقتصادية حول العالم. بعض المفكرين مثل فرانسيس فوكوياما اعتبروا أن هذه المنظومة تمثل “نهاية التاريخ” وأن الديمقراطية الليبرالية هي شكل الدولة النهائي. لكن يجب ان نلاحظ ان هذه الدول تتفاوت في نماذجها العملية.
لم نذكر في هذا السياق الحركات الإسلامية التي ظهرت في إيران وباكستان وأفغانستان والبلاد العربية بعد سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين، لأنها لم تعلن صراحةً سعيها لإقامة دولة حضارية حديثة بمرتكزات عصرية، بل ركزت على إقامة الدولة الإسلامية وفق فهمها الشرعي والديني.
هذا الاختلاف في الهدف يؤكد وجود توجهات متعددة ومتباينة في المنطقة، بعضها يسعى للدولة الحديثة الحضارية على أسس ديمقراطية وقيم إنسانية شاملة، وبعضها يركز على إقامة الدولة الدينية دون إعلان نية صريحة لتحديث مؤسسات الدولة على نحو عصري.
فهم هذا التباين ضروري لفهم تعقيدات بناء الدولة في بلدان المنطقة ومنها العراق، حيث تتداخل الطموحات وتتقاطع الرؤى، مما يؤثر على مسار التحول السياسي والاجتماعي.
خيارات الدول نحو الدولة الحضارية الحديثة:
لكن الواقع يثبت أن لا وجود لنموذج واحد مطلق للدولة الحضارية الحديثة. لكل بلد خصوصياته الثقافية، الاجتماعية، والتاريخية التي تجعله يختار طريقه الخاص لبناء الدولة. ليست كل الدول ملزمة باتباع نموذج رأسمالي غربي أو تجربة شيوعية، بل يمكنها اختيار منظومات قيمية وسياسية تناسب ظروفها.
نموذج العراق وبناء الدولة الحضارية الحديثة بالقيم القرآنية والإنسانية:
في السياق العراقي، يمكن طرح نموذج مستقل لبناء الدولة الحضارية الحديثة يعتمد على القيم القرآنية كمنظومة قيم عليا تُوجه مسار الدولة. هذه القيم، التي تؤكد على العدالة، الشورى، احترام كرامة الإنسان، التعايش السلمي، والمساواة، بالإضافة إلى القيم الإنسانية الأخرى، تمثل قاعدة صلبة لبناء دولة عصرية متماسكة. مع مراعاة الخصوصية العراقية ثقافيا وسياسيا.
لا تعني هذه القيم رفض الحداثة أو الديمقراطية، بل على العكس، فهي يمكن أن تُكمل الأطر الحديثة، وتؤمن لها بعداً أخلاقياً وروحانياً، ما يجعلها أكثر استقراراً وقرباً من الواقع الاجتماعي العراقي. كما أن اعتماد القيم القرآنية ليس تجسيداً لحكم ديني مغلق، بل إطاراً أخلاقياً يمكن تفعيله في دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتضمن تداول السلطة بشكل سلمي.
الخلاصة
إن تجربة القرن العشرين تُعلمنا أن بناء دولة حضارية حديثة ليست مسألة اعتماد منظومة قيم أو نظام سياسي وحيد، بل هي عملية توافقية تراعي خصوصيات المجتمع وتجمع بين الحداثة والقيم الأصيلة التي تمنح المشروع السياسي عمقه واستمراريته. وعليه، يمكن للعراق أن يعبّد طريقه نحو الدولة الحضارية الحديثة عبر تبني منظومة قيم قرآنية وإنسانية تتلاءم مع حاجاته وتطلعات شعبه، متخطياً بذلك محاولات فشل أخرى وأفكار مسبقة، نحو مستقبل يليق بتاريخ البلاد وثقافتها. وهذا ما تحدث عنه السيد محمد باقر الصدر في لقائه الاخير مع صدام حسين، حسب رواية صباح سلمان.