صلاح مهدي السعيد: سادن الكلمة في مدونات التراث والرحلة والترجمة
محمد علي محيي الدين
في مدينة الحلة، على ضفاف الفرات التي طالما أنجبت أهل الفكر والقلم، وفي محلة الجامعين تحديدًا، وُلد صلاح بن مهدي بن عباس بن سعيد الخفاجي في الأول من تموز عام 1945، ليكون منذ البدء نسيجًا فريدًا من المعرفة الموروثة والحس الأدبي المرهف. وما إن خطت قدماه درب العلم حتى اتخذ من الكتاب رفيقًا ومن الفكر زادًا، فكبر في بيتٍ مكتبيٍّ الهوى، شُيِّد جدرانه من رفوفٍ مفعمةٍ برائحة الورق القديم، وحديث المؤلفات العظيمة.
لم تكن النشأة في هذا البيت العبقري إلا بذرة أولى لمشروع فكري طويل، بدأ يتضح ملامحه عندما التحق صلاح السعيد بكلية الآداب – جامعة بغداد، وتخرج من قسم اللغة الإنجليزية عام 1969، حاملاً معه يقينًا داخليًا أن الطريق إلى الذات يمر عبر الترجمة، وأن الأدب جسدٌ واحد وإن اختلفت لغاته.
كان أول ما كتبه مقالاً نُشر في مجلة الكلمة في عام تخرجه ذاته، وسرعان ما تتابعت إسهاماته في الصحف والمجلات الثقافية، فكتب وترجم، وسافر بين العوالم اللغوية والأدبية، باحثًا عن الجمال، مفسرًا للرموز، ومؤلفًا لجسورٍ تمتد من الشرق إلى الغرب.
المعلّم، المترجم، الرحالة
عمل السعيد مدرسًا للغة الإنكليزية، حائزًا على شهادة الجدارة من معهد تطوير اللغة الإنكليزية التابع للمعهد البريطاني، وأفنى سنواتٍ في تعليم الأجيال، متنقلاً في المدارس والمعاهد العراقية، ثم منتدبًا إلى ليبيا والكويت وألمانيا، حاملاً معه لذّة الحرف وروح الوطن، ليغدو معلّمًا لا للغة فحسب، بل للحياة كما ينبغي أن تُقرأ وتُفهم.
لكن السعيد لم يكن مجرد معلمٍ تقليدي، بل ظل تلميذًا نهمًا في مدرسة الوجود، يكتب ويترجم ويسافر، ليس بجسده فقط بل بفكره، عبر تراث الرحالة والمستشرقين، وحكايات المدن، وطبقات الألفاظ الشعبية، فكان مؤلفًا متعدد الاهتمامات، يلتقط من كل بستان زهرة، ليقدّمها لقرّائه بغير تكلف.
بين الترجمة والبحث: حفريات في الذاكرة الجمعية
من يقرأ إنتاج صلاح السعيد يشعر وكأنه أمام مشروع فكري متكامل، مشروعٌ يسعى فيه إلى استعادة المدوّنة الشعبية، وتوثيق الألفاظ العامية، واستنطاق المدن بصوت مَن زارها وكتب عنها. ففي كتبه جمهرة الألفاظ العامية المتداولة في الحلة (2009)، وجمهرة الألفاظ العامية العراقية (2021)، يتضح هوسه اللغوي وسعيه لحفظ الذاكرة الشعبية من الاندثار.
أما في ترجماته عن الرحالة والمستشرقين، كـمذكراتي في خرائب بابل لجيمس كلاوديوس ريدج، والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة في مذكرات الرحالة، وبابل في مدونات الرحالة، فإن القارئ يجد نفسه في قلب التاريخ، يراه من عيون الآخرين، ويحاكم الرواية الأجنبية بعيون عراقية راصدة، لا تنساق خلف الانبهار، بل تحلله وتقرأ دوافعه.
وفي مجال الأنثروبولوجيا، برز كتابه طقوس وعقائد ما بعد الموت، الذي نال عنه الجائزة الأولى من وزارة الثقافة العراقية عام 2011، فكان هذا العمل شاهداً على قدرته في تفكيك البنى الرمزية للعقيدة، عبر منظور علمي، وفي الوقت ذاته بأسلوب لا يخلو من شاعرية الفكر وجماليات التعبير.
صوت الثقافة العالمية في الصحافة العراقية
عبر عضويته في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، ونقابة الصحفيين، واتحاد الأدباء العرب والدولي، ساهم السعيد في إثراء الحراك الثقافي، ولم يكن عضوًا اسميًا، بل فاعلًا، يرأس هيئة تحرير جريدة الأديب الثقافية ويشرف على قسم "ثقافة عالمية"، ليقدم للقارئ العراقي نافذة على الآخر، وإطلالة على تجارب شعوب أخرى، في الفن والشعر والسرد.
وكانت ترجمته لقصائد عالمية مثل ما زال المطر منهمرًا والباب المنزلقة تقلق الطيور، وترجمته لأعمال والت ويتمان، وسير أدباء وفنانين، برهانًا على شغفه بالجمال أينما كان، وقدرته على نقل النبض الإنساني من لغاتٍ بعيدة إلى روح القارئ العربي.
آراء النقاد فيه: الباحث الذي لا يكلّ، والمترجم الذي لا يخطئ
يرى النقاد في صلاح السعيد حالةً ثقافية نادرة، جمعت بين الأكاديمية والحس الصحفي، بين الأمانة في الترجمة والجرأة في التأويل، فكتاباته تشي بعمق اطلاع، ودرايته بالثقافة الغربية لا تجرّه إلى تبجيلٍ مجاني، بل تجعله ناقدًا لها، منصفًا حينًا، ومتحفظًا حينًا آخر.
وقد وصفه أحد النقاد بأنه "رحّالة ثقافي"، لا يعرف الحدود بين الأنواع الأدبية، ولا بين اللغات، فهو يكتب القصة القصيرة، والمقالة، والدراسة الأنثروبولوجية، ويترجم الشعر والرواية واليوميات، ويجمع كل هذا تحت مظلة واحدة: مظلة البحث عن الإنسان.
ويقول آخر إنه "يحمل الحلة معه في كل كتاب"، فهي ليست مسقط رأسه فحسب، بل مركز عالمه، وهو ما يتجلى في كتبه مثل خانات الحلة والحلة في مذكرات الرحالة، وحتى في جمهرة الألفاظ، فإن مدينة بابل القديمة والحلة الحديثة لا تفارقانه، وكأنهما هويته التي يكتب بها ويكتب عنها.
سيرة متواصلة في زمن الانقطاع
رغم تقاعده منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم يتوقف صلاح السعيد عن الكتابة أو المشاركة، بل ظل اسمًا فاعلاً في مهرجانات الثقافة ومؤتمرات الفكر، داخل العراق وخارجه، وكان عضوًا مؤسسًا لاتحاد أدباء وكتاب بابل، وترأسه في دورتين متتاليتين، مؤكدًا أن القيادة الأدبية لا تأتي باللقب، بل بالفعل الثقافي.
وحين كتب مدن في حياتي، كانت الرحلة قد اكتملت: من الحلة إلى بغداد، إلى الكويت وبرلين وطرابلس، إلى مدن العالم التي دخلها ككاتب لا كسائح، وخرج منها بحكايات تُروى وكتب تُكتب.
حكمة الحبر في زمن الصخب
إن سيرة صلاح مهدي السعيد ليست مجرد قائمة مؤلفات ولا عضويات ثقافية، بل هي سردية مقاومة، مقاومة للنسيان أولًا، وللاستلاب الثقافي ثانيًا، ووفاءٌ للكتاب، بوصفه موئلًا وملاذًا في كل فوضى مرّت بها البلاد.
هو واحد من أولئك الذين لا يملؤون الشاشات ولا يتصدرون المشهد الإعلامي، لكن أثرهم في العقل الثقافي العراقي عميقٌ، راسخٌ، لا يُمحى. ومن يقرأ له، يدرك أن الكلمة، حين تُصاغ بالحب والمعرفة، تظل طازجة، حتى لو مرّ عليها زمن طويل.
فيا سيد الحروف، يا من سكنت المكتبة كما يسكن العاشق معشوقته، طوبى لك هذا الإرث، وطوبى لمدينتك بك.