بين ترامب والخليج.. إستراتيجية ترويض الصين وتقليم أظافر ايران
احمد فكاك البدراني
مع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية ، تزايد الحديث عن برنامجه العام ونفوذه داخل الحزب الجمهوري ، وعاد الجدل حول شكل السياسة الأمريكية المقبلة ، وخصوصا في العلاقات الدولية ، والحرب الروسية - الاوكرانية ، وكذلك العلاقات مع الاتحاد الأوربي وايضا مع منطقة الخليج العربي ، وحجم تأثيرها على قضايا إقليمية ودولية واسعة وجسيمة بل كبرى ، تمتد من بكين إلى طهران ، ومن غزة إلى الرياض والدوحة ، وابو ظبي والمنامة ، وتلامس سوريا والعراق واليمن.
في قلب هذه التحولات ، تبرز القيادات الخليجية الشابة ، وهي ترسم بخطى واثقة ملامح شرقاً أوسطياً جديداً متوازناً ومبادراً ، يقود ولا يقاد ، وقد لخص الأمير محمد بن سلمان ذلك من خلال رؤية السعودية 2030 بأن المستقبل لهذه المنطقة من خلال الاستقرار وتحقيق السلام وتطور الاقتصاد .
- واشنطن وبكين: صراع النفوذ في عمق الخليج
شهد القرن العشرين تنافساً حاداً وجاداً بين واشنطن وموسكو ( ابان وجود الاتحاد السوفيتي ) ، وقد حاولت واشنطن منع موسكو بكل الوسائل والوسائط من الوصول الى المياه الدافئة ، لكنها لم تفلح لوجود قيادات سياسية قوية مثل لينين ( 1917-1922 ) الذي اسس للدولة بطابع شمولي وقوة صلبة ، كانت رد فعل على كل ماسبق البلاشفة ، وستالين ( 1922-1953) ومالينكوف الذي حكم سنتين فقط ، وخروتشوف 1955-1964 ثم بريجنيف من 1964-1982 .
مقاومة السوفيت
وكان الاتحاد السوفيتي يتوسع حتى وقع في مستنقع افغانستان عام 1979 ، وتشير بعض المصادر ، إن مدى الدعم الأمريكي انذاك للأفغان لمقاومة السوفيت ، كان كبيرا ، حتى انهم صنعوا بعد ذلك تنظيم القاعدة عام 1988 ، لإحياء روح ( الجهاد الإسلامي ) ضد ( الالحاد الشيوعي ) مع نهاية المهمة العسكرية السوفيتية في أفغانستان ، أذ رأى بعض المجاهدين توسيع نطاق عملياتهم الجهادية لتشمل أجزاء أخرى من العالم ، مثل ( إسرائيل ) وكشمير.
أقول .. إذا كان القرن العشرين هو قرن صراع سمي مجازا بالحرب الباردة بين القطبين ( الولايات المتحدة - الاتحاد السوفيتي ) ، فان القرن الحادي والعشرون هو قرن التنافس بين الولايات المتحدة والصين التي كانت تنمو بشكل مستمر وبهدوء تام والخصمين منشغلين ببعضهما لتحرز تقدما كبيرا ، ولتطرح نفسها على الساحة الدولية - قوى عظمى - بعد ان تفكك السوفيت عام 1991 ، وقد بدأت الصين بتقدّم ناعم نحو أسواق الخليج عبر البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة ، لكن عودة ترامب قد تنقل هذه المنافسة إلى مستويات صريحة.
اذ ان فلسفة ترامب الاقتصادية لا ترى في الصين مجرد شريك منافس ، بل خصم استراتيجي عنيد يجب تقييده، لا سيما في المناطق الغنية بالموارد والثروات والموقع الجيوسياسي كمنطقة الخليج العربي.
من هنا ، قد نشهد ضغطًا أمريكيًا متزايدًا على دول الخليج لتقليص شراكاتها الحساسة مع الصين ، لا سيما في مجالات الذكاء الصناعي والاتصالات والطاقة ، مقابل تعزيز الصفقات الأمنية والعسكرية مع واشنطن ، وتقديم محفزات تفوق الجانب الاخر كي يكون التقليل من هذه المشاركات والحد منها وليس إنهائها ، اذ بات اللاعبان القويين يرسمان مستقبل بلديهما والمنطقة بعيون بصيرة ، الأمير محمد بن سلمان آل سعود والأمير تميم بن حمد ال ثاني .
ولعل لعبة ترامب بكسب الحلفاء في الخليج واضعاف علاقاتهم مع الصين ، يعد شكلا من أشكال سحب البساط من تحت الأقدام بقوة ناعمة خير من المواجهات المباشرة مع الصين التي باتت قوة كبيرة في مجال الاقتصاد فضلا عن الموارد الطبيعية والبشرية ، ولعل هذه بدايات استفاقة ( العملاق النائم ).
- إيران تحت المجهر مجددًا: سياسة “أقصى ضغط” تعود ..
لم تكن العلاقات الأمريكية - الإيرانية جيدة منذ سقوط حكم الشاه عام 1979 ، فقد كانت فاتحة الثورة الإسلامية في ايران اقتحام السفارة الأمريكية يوم 4 تشرين الثاني من نفس العام واحتجاز السلك الدبلوماسي وعدهم رهائن ، هذا ما وتر العلاقة جداً بين الجهتين ، فضلا عن تحسن العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق بعد ذلك وخصوصا إثنا حرب الثمان سنوات بين الجارتين ، ولهذا بقيت التوترات تشوب العلاقة بين ايران والولايات المتحدة.إدارة ترامب السابقة رسّخت نهج “أقصى ضغط” في التعامل مع إيران ، عبر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني يوم 8 مايس عام 2018. وفرض عقوبات مشددة ، بقيت الولايات المتحدة ماضية بالعقوبات ضد ايران في عام 2019 وفي عام 2020 ، حتى قيدت المصارف الإيرانية والأصول المالية لايران في الخارج .
وبدت دول الخليج – خصوصًا السعودية والإمارات – أكثر اطمئنانًا لهذا النهج الذي أعاد الاعتبار لمفهوم الردع الاستراتيجي في مواجهة طهران الساعية الى بسط نفوذها بوصفها قوة اقليمية فاعلة ووريثة امبراطورية كبيرة ، يعززها التأريخ وتقويها الثروة النفطية ، ويدفعها تبنيها لتصدير الثورة الإسلامية خارج حدود ايران ، وهذا ما هو معلن منذ انطلاق الثورة وتسمنها الحكم في طهران عام 1979.
مع عودة ترامب أو صعود جمهوريين وهم يتبنون خطه، من المتوقع أن يُعاد خلط الأوراق ، القدية والجديدة ، بما في ذلك إمكانية التصعيد السياسي وحتى العسكري ، لاسيما وأن الولايات المتحدة تلوح بالعصا بين الحين والآخر ، غير انها ترى ان العقوبات يجب ان تأخذ مداها من اجل زعزعة الداخل ، وهذا ما تتبناه الولايات المتحدة مع الدول التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية .
سياسة المد والجزر
لكن القيادات الخليجية اليوم أكثر نضجًا وفهما للأحداث السياسية والتأريخية ، وخصوصاً ما اسلفنا ذكرهم ( الأمير محمد بن سلمان ال سعود والأمير تميم بن حمد ال ثاني ) ونضيف اليهم قيادات الإمارات العربية المتحدة اذ تحاول هذه القيادات تحقيق توازن بين الردع والاستيعاب ، وهو ما ظهر جليًا في محاولات التهدئة الأخيرة بين الرياض وطهران ، برعاية صينية.
ويمكنني ان أطلق مصطلح ( سياسة المد والجزر ) ، فكلما كانت الأجواء هادئة كان الميل الى الاستيعاب ، واذا اشتد الأمر تظهر سياسة الردع في المقدمة . هذه السياسة التي غابت عن الجيل السابق من القيادات العربية ، فكانت تسير على وتيرة واحدةٍ حتى داخل البيت العربي ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، على الرغم من حكم حزب واحد لبلدين متجاورين هما العراق وسوريا ، لم تصف الأجواء بينهما على مر العقود ، وكذلك بلدان اخرى وانظمة اخرى .. وهذا يعني تغير في استراتيجية الفكر السياسي العربي ، وهذه تحسب للقيادات الشابة التي تبنــــت مفهوم السياســة فن الممـــكن .
- إسرائيل وغزة: إعادة ضبط العلاقة تحت الضغط الإقليمي ..
رغم الدعم غير المسبوق الذي قدّمه ترامب لإسرائيل خلال ولايته الأولى، ومنها إعلان القدس عاصمة لاسرائيل ، فإن التوترات الأخيرة في غزة ، والانتهاكات الإسرائيلية الواسعة ، فرضت على واشنطن – حتى في عهد ترامب – التفكير بأسلوب جديد.
الضغط الخليجي والعربي ، إلى جانب المتغيرات على الأرض ، يجعل من الصعب استمرار سياسة “الدعم المطلق”.
قد نشهد في المرحلة المقبلة مقاربة أكثر براغماتية: حماية إسرائيل كحليف ، ولكن مع تقييد تحركاتها التي تهدد الاستقرار الإقليمي ، خصوصًا حين يتعارض ذلك مع مصالح أمريكا في استقرار الخليج وفتح قنوات التطبيع.
- رسائل طمأنة أمريكية… بشروط جديدة
واشنطن – بغض النظر عمن يحكمها – تدرك أهمية الخليج كمنطقة استراتيجية للطاقة والاستثمار ومكافحة الإرهاب.
إلا أن مرحلة “الضمانات المجانية” قد ولّت. إدارة ترامب ، بتجارتها السياسية الصريحة ، ستطرح الأمن مقابل التماهي الاستراتيجي ، والوجود العسكري مقابل الدعم السياسي ، وهذا بالضبط ما فهمته جيدا القيادات العربية الشابة ، فقد ادرك الجميع ان لا شيئ ياتي دون ثمن ، وان المواقف من اجل تسجيل المواقف في سجلات التأريخ قد اصبحت جزءً من الماضي السياسي بل من الارث السياسي القديم .
هذا يُعيد ترتيب أوراق العلاقة الخليجية الأمريكية على أساس المصالح المتبادلة ، لا على أساس الاعتماد الأحادي.
- القيادات الخليجية الشابة: من التلقي إلى المبادرة ..
لعقودٍ مضت كانت الشعوب العربية ضحية لحكامها ، منهم من استبد وحكم بالحديد والنار ، لأذعنت له الرقاب ، ونهم من ورث الحكم فكرهته الناس .
ونهم من سيطر من خلال الاحزاب الشمولية فحارب الفكر واضطهد المفكرين ، ومن اجل البقاء على كرسي الزعامة لم يكن إلا اداة لينة طيعة ، فكان يتلقى وينفذ ما يتلقاه ، ولهذه الاسباب وغيرها ضاعت القضايا العربية المصيرية وبقيت الوطن العربي عرضة للتفتيت ومرتعا للطامعين تحت وصاية بعض الحكام .
لكن يميز العقد الحالي أن الخليج لم يعد كالسابق ، ساحة تتأثر فقط بما تمليه العواصم الكبرى ، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في تشكيل المعادلة ، من خلال فكر القيادات الشابة التي حملت فكرا مختلفا عن سابقيها .
ولعل الأمير محمد بن سلمان في السعودية ، اثبت للعالم القدرة الفذة في القيادة وتغيير نمط الحياة الاجتماعية في المملكة خلال فترة وجيزة ، وهذا سيكون فاصلاً تاريخيا مهما وحاسما في تأريخ المملكة ، وعلى كافة الاصعدة ، فتحول السعودية من بلدٍ ريعي يعتمد على النفط إلى بلد صناعي مصدر في غاية الأهمية ، وبلدٍ مدني لا يلعب رجال الدين بمقدراته السياسية والاجتماعية ، يقوده جيل تكنوقراطي من الشباب الواعي والمدرك لضرورة التغيير الإيجابي للنهوض بواقع البلد .
هذا ما جعله في الريادة وحط أنظار العرب في الداخل والخارج ،
والامير الشيخ تميم بن حمد ال ثاني في قطر وقدرته العالية على المناورة السياسية واتخاذ المواقف الصلبة والمدروسة بعناية ، لم تقوِ مركزه المحلي فحسب وانما جعلته في صدارة المشهد عربياً وإقليمياً وعالميا ، وقد استطاع ما بين عامي 2013- 2025 ان ينقل قطر نقلة نوعية من خلال تعزيز الابتكار في القطاعات غير النفطية لتقوية الاقتصاد وتحوله إلى اقتصاد متنوع وغير احادي ، واخذ التعليم والتكنولوجيا الحديثة والسياحة والرياضة ، ميادين مهمة للنهوض ، وما كانت استضافة بطولة كأس العالم عام 2022 ، إلا من اجل لفت أنظار العالم إلى ما توصلت اليه قطر خلال عقد من الزمان ، وكل هذا أوصل قطر ان تكون لاعباً دوليا متميزاً في البيت العربي والمحيط الاقليمي والساحة الدولية.
هذان القائدان الشابان يمثلان نموذجًا لقيادة تجمع بين الواقعية السياسية والطموح التنموي ، الذي يحتاجه المجتمع العربي اليوم ، والذي أفتقره بالأمس .
رؤية السعودية 2030 ورؤية قطر ايضاً ومشاريع التحول الوطني في قطر والإمارات والبحرين تعكس إرادة حقيقية في الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي ، ومن التبعية الاستراتيجية إلى الشراكة الحقيقية.
وثمة قولٍ اخير بعد هذا العرض الموجز ..
اقول: الشرق الأوسط مقبل على تحولات عميقة ، سيكون لواشنطن – سواء مع ترامب أو غيره – دور فيها ، لكنه لن يكون الدور الوحيد.
الخليج ، بقياداته الشابة ، لم يعد ينتظر الأوامر من الخارج ، بل يبادر ، يفاوض ، ويصوغ مستقبله بشروطه الخاصة.
وفي عالم تتغير فيه موازين القوة ، قد يكون الخليج هو الصوت المتزن الوحيد بين صخب التنافس الدولي.
ولاشك ان العراق سيلعب دورا محورياً مهماً لاسباب كثيرة ، عمقه التاريخي ، اقتصاده القوي ، تنميتهِ الواعده ، موارده البشرية والطبيعية ، واحتضانه للأشقاء العرب والوقوف معهم في كل الأزمات وفي كل الظروف ، كل تلك المقومات ستجعله بصدارة الموقف شيئنا ام أبينا ، وتظهر جلية خصوصاً إذا أنيط الدور مرة ثانية للسيد محمد شياع السوداني الذي يمثل القيادات الشابة والفاعلة والناهضة بالقطاع الخاص والعام وما طرح من برامج على المستويات الثلاثة العربية والإقليمية والدولية ، ولا يحتاج العراق إلا لبضع سنين لنرى حجم التغيير الإيجابي وكيف يؤرخ لهذه الفترة الحرجة من الزمن .
وزير الثقافة والسياحة والآثار