الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رقمنة الشعر..  بين الدفقة الأولى وآليات الاشتغال


رقمنة الشعر..  بين الدفقة الأولى وآليات الاشتغال

 

حسين عجيل الساعدي

 

تسعى هذه المقالة إلى توضيح كيفية استغلال الشاعر تقنيات الرقمنة لإيصال مضمونه الشعري إلى المتلقي.

ينبغي أولاً أن نبدأ بتعريف الرقمنة وهي تعريب لكلمة (digitization) المصطلح، الذي تُرجم عدة تراجم مثل (الترقيم)، (التمثيل الرقمي)، (الأرشفة الرقمية والإلكترونية). والرقمنة هي (صيغة رقمية لتحويل البيانات والمعلومات إلى تنسيق يمكن تخزينه ومعالجته ومشاركته باستخدام التكنولوجيا الرقمية)، أي  تحويل المستندات الورقية إلى ملفات إلكترونية، يمكن قراءتها وتوصيلها الى المتلقي من خلال الاستعانة بكل ما متوفر في برامج التكنولوجيا الرقمية المختلفة.

واليوم نحن نعيش في عالم إلكتروني متشعب، عالم الثورة الرقمية، وفق مواصفات عصر الحداثة، باعتماد تقنيات اللغة والأساليب والرؤى التي ألقت بظلالها على مختلف صنوف الادب، وفتحت مجالاً واسعاً لأدبيات متنوعة، في السرد والشعر. فأفرزت لنا أدباً، سمي بـ(الأدب الرقمي)، الذي شكل جنساً أدبياً بمختلف تنوعاته الشعرية والسردية، وهو أدب تفاعلي، شكل طفرة أدبية في تنوع اللغة واعتماد رؤى متعددة الأساليب ومتجددة الأشكال، هذا النوع الأدبي وجد له مكاناً في البيئة الإلكترونية، يعتمد على تجاوز المألوف بالكتابة.

يعد الشعر العربي المعاصر أكثر الأجناس الأدبية، أصاب بنيته الشعرية التغيير، شكلاً ومضموناً، فقد عرف تحولات مفصلية، وأشكالاً شعرية مستحدثة، والكثير من الأنساق المتنوعة، التي لم تخضع للمقاييس الشعرية التقليدية، ولم يألفها المتلقي من قبل، تحمل مسميات متنوعة، مثل: (قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، والهايكو العربي، وقصيدة الومضة، وقصيدة النانو)، وغيرها من الأنساق الشعرية التي ظهرت. وقد جاء هذا التغيير بعد التأثر بالحداثة الشعرية وما بعد الحداثة. وأخذت هذه الأنساق تستقطب اهتمام الباحثين والنقاد، وتُمنح القارئ مساحة واسعة للتأويل والمشاركة في بناء المعنى، بما تمتاز به من تكثيف وايجاز والقدرة على الإيحاء والإدهاش. ولكن يرى البعض أن هذه الانساق قد أقصت (الخطاب الشعري بفعل عملية التحديث والإغراق في شبكة المفاهيم الرمزية، والكفاءة اللغوية)، وانفلاتها من الأطر التقليدية، كالنسق الموسيقي، والنسق اللغوي والبلاغي، ونسق الرموز وتوظيفها في النص الشعري.

حتى نرى في هذه الانساق، استسهال كتابتها، وهذا فعل مستهجن، تنشر على مواقع التواصل، الذي يستلزم صرامة نقدية، فهناك كم هائل من النصوص المصنفة شعراً، تعتبر مقتل للنص الأدبي، لأن أغلب هذه النصوص عبارة عن خواطر ضحلة وكتابات استسهالية، لا يتوفر فيها أدنى شروط ومقومات الكتابة الشعرية، تصاغ بأسلوب لقطات مختزلة تلائم القارئ العادي البسيط، من أجل بثها عبر أجهزة الموبايل والشاشات الصغيرة، وتلقى رواجاً لها، والسبب يعود الى الثورة الرقمية و (تراجع حركة النقد الأدبي عالمياً لمصلحة "الفوضى" التي سببتها العولمة)، لأن غالباً ما يعتقد الشاعر حين يقدم نصه، يظن أنه يمتلك سلطة النص، وفي منئ من سلطة الناقد، تراه يغرق نصه بالغموض حد الابهام والمجاز والاستعارة والانزياح والبلاغة، من أجل أن يتجنب سلطة الناقد، ولكن تناسى أن ما كتبه من شعر أصبح ملك القارئ بمجرد خروجه الى الفضاء الخارجي. وهنا لم يعد الناقد مالكاً لسلطة النص في مهمة النقد والاستقصاء، وفقد (صلة الوصل ما بين معنى النص وما بين ذهن القارئ)، فلا يملك القدرة على أن يعدل كفة الميزان، حتى يرى البعض من النقاد أن العلاقة بين الشعر والنقد أصبحت ضرباً من العبث، فلا حماية للشعر، في مواكبة الأعداد الهائلة من المجاميع الشعرية التي تنشر سنوياً، حتى نرى أن الشعر فقد صنعته، بعد تكاثر الشعراء والشواعر، وغياب النشر في المجلات التخصصية، والملاحق الثقافية، وصار من المألوف أن نقرأ نصوصاُ وقد ملأت صفحات التواصل الاجتماعي، تعاني من ضمور الوظيفة الشعرية فيها، نتيجة ما أفرزته الثورة الرقمية من تداعيات مدهشة، حتى صار الشاعر ينشر نصه الشعري مباشرة، على أنه نوع من التفاعل المباشر مع المتلقي، ولكن مع غياب التنقيح والتعديل، يفقد النص رصانته، لأن النص الشعري الرصين يحتاج الى ذلك، وكل هذا يحدث من أجل إسعاف الشاعر في أطلاق محتواه وايصال مضمونه الشعري إلى القارئ في فضاءات مغايرة، من أجل تحقيق الانتشار الأفضل، من خلال استغلال الوسائط التقنية المتعددة، عبر مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا وغيرها، حيث ساعدت هذه الوسائط الرقمية في انتشار النصوص المختزلة، في الفضاء الإلكتروني، بعد أن عرف الشعر تحولات كبرى مست بنية النص الشعري، ونمط الكتابة الشعرية، تحت مسميات متنوعة (الومضة، الهايكو العربي، قصيدة النانو، القصة القصيرة، القصة القصيرة جداً)، وغيرها من الأنساق الشعرية، وكل هذه الأنواع لها حضورها في الأدب الرقمي بشكل عام، فترى النص الشعري يرتدي ثوباً جديداً يواكب العصر، تكون فيه الالفاظ عبارة عن شذرات تتعالق شعرياً ورقمياً، تضخ مباشرة بعد كتابتها في إطار الأدب التفاعلي الإلكتروني عبر شاشات الموبايل والحواسيب. لإن النص الشعري الرقمي أصبح (نص مستقبلي، غير ثابت، دائم الانفتاح على المستقبل، في إطار علاقة متجددة بين الشاعر والقارئ). ولكل جنس منها خصائصه وعناصره التي تميزه، يتداخل مع الأجناس الأدبية الاخرى، لأن (في الكتابة الفنية المعاصرة، عموما نوع من تداخل الأجناس الأدبية فيما بينها ينجم غالبا عن إحساس الكاتب أو عن ثقته بعجز الجنس الواحد عن استيعاب ما يريد طرحـه أو عكسه من تجربته الشعورية أو الإبداعية)، "د. صلاح صالح، سرديات الرواية العربية المعاصرة، ص207". وإن كل شيئاً جديداً يجد مؤيداً أو معارضاً له، والشعر الرقمي أو ما يُعرف بـ(الشعر الإلكتروني)، وجد تفاعلاً بين مؤيد ومعارض، يراه بعض النقاد (شعراً ملتبساً كونه يعتمد على طبيعة البيئة الرقمية ورؤية المتلقي)

، في حين يراه البعض الآخر (شكلاً من أشكال التحول الشعري، ينهي المسافات بين الشاعر والمتلقي).

لقد غيرت تكنولوجية الاتصال أدوات الكتابة من الورقة والقلم إلى الكتابة على الشاشة الرقمية، فظهر الشعر الرقمي كـشكل شعري يتضح من خلال التقنيات الرقمية، ومنصات الإنترنت، مما يجعله نمطاً شعرياً جديداً، تحقق خارج مألوف الأطر التقليدية، فأخذ حيزاً في الساحة الشعرية، له جمهوراً ‏واسعاً يتفاعل معه، لأنه يستعمل تقنيات وروابط لم تكن من وسائط الإبداع الشعري في السابق، وسائط مواكبة للحداثة تتمتع بالديناميكية تسمح للمتلقي بالتفاعل مع النص الشعري بشكل مباشر، فظهرت أنساق شعرية مبتكرة تلائم مرحلة ما بعد الورق في هذا النوع (الشعر الرقمي) تُطرح إشكالية وهي عدم تنقيح الكثير من الشعراء نصوصهم قبل نشرها رقمياً، حتى تخرج في أبهى صورة، فكان من نتائج النشر المباشر، على مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا، أن أصبحت الكتابة الشعرية وليدة لحظتها، مما أدى إلى (تحجيم دور الشاعر في إنتاج النص لصالح الآلة)، فتظهر نصوص ارتجالية لا تخلو من الثرثرة، تنحرف عن مسارها الشعري، مما يؤدي إلى فقدان حيوية الشعر، ولذة معاناة خلق القصيدة، وتشتت رؤية الشاعر مما يفقده التأثير.

نحن الآن نعيش في عالم يسود فيه الانترنت، الذي ساعد الشعراء المعاصرين المولعين بالعلاقة بين الشعر والتكنولوجيا على الانتشار السريع، الذي لم يكن بمقدور أحد منهم أن يصل اليها من قبل.


مشاهدات 54
الكاتب حسين عجيل الساعدي
أضيف 2025/07/13 - 3:09 PM
آخر تحديث 2025/07/14 - 7:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 267 الشهر 8512 الكلي 11162124
الوقت الآن
الإثنين 2025/7/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير