الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
رواية عن كاولية العراق

بواسطة azzaman

رواية عن كاولية العراق

فيصل عبد الحسن

 

ثعالب من عسل” لمحمد سعدون السباهي هي بحق أفضل رواية قرأتها عن“كاوليةالعراق”يسمي العراقيون الغجر:“كاولية” وهم من الشعوب التي أغلب أفرادها من الفنانين، وتربَّت أجيال منهم على أقل ما ممكن من متطلبات الحياة، وهم سعداء بفقرهم، وما يحملونه معهم في ترحالهم الطويل ليس سوى بقايا أثاث بسيط متهالك، وخيام متهرئة، تحملها الحيوانات في أغلب المناطق الحدودية، من الدول الأوربية والعربية.

الأيروتيكا

أحالتني الرواية الذي يظن البعض خطئاً، أنها “أيروتيكا” خالصة، وهذا لبس في تجنيس هذا النص الرائع، وشتيمة إلى هذه المجموعة البشرية، والرواية تسجيل يومي حقيقي لحياة هؤلاء، والكاتب قضى عدة أيام في ضيافتهم في مخيمهم“الفوّار” قريباً من الديوانية، وكتب عنهم لا أقول رواية فقط بل هي بحث سيكولوجي معمق في التركيبة النفسية والتاريخية والاجتماعية لهؤلاء المغلوبين على أمرهم، الذين يعيشون العزلة في وطنهم، ولولا متطلبات العيش لما احتكوا بأهل المدن، ولكن للضرورة أحكام، أهدى الكاتب روايته إلى الكاولية الجميلة“فضاء”التي وكما يبدو قد علقته بعلاقة عشق شفافة، غريبة عما نعرفه عن الحب، والأشواق في مجتمعاتنا المدينية المألوفة بل هي“أيروتيكا”عنيفة مارساها كعاشقين حقيقيين.

المعتقل

تبدأ الرواية بمقولة غجري موهوم بأهمية الفن في خلق عالم إنساني:“بوتر ربابتي هذا أهدم العالم وأعيد بناءه” ومن الصفحات الأولى للرواية نقرأ عن الجحيم الأرضي العراقي: المكان معتقل رهيب لمختلف التهم والجرائم السياسية، والجنائية وللهاربين من الجيش العراقي في فترة الحرب العراقية الإيرانية 1980ــ1988، والصيدلي الذي يعمل في عيادة السجن مراقب ناقد للأوضاع اللاإنسانية في المعتقل، ولديه ميول أدبية تجعله يسجل كل ما يراه ويسمعه سواء بالوصف أو بالسرد الحكائي، يصاحبه د.عبدالحسين طبيب عيادة السجن، الذي يحكي عن معاناة العراقيين المغلوبين على أمرهم في حرب وحشية تدور رحاها من دون أي بادرة أمل بأنتهائها قريباً، وكل هذه التوطئة لعذابات البشر، هي مقدمة للتعرف على ثلاث شخصيات من الكاولية المسجونين. كانت تهمتم الاعتداء بالضرب لعريف المركز بالديوانية، لأنه كان يبتزهم أسوأ ابتزاز أولهم كان“أبوصباح”مختار الكاولية في الفوّار.

 الصيدلي يساعدهم في توفير الأدوية لهم، وحفظ طعامهم في ثلاجة عيادة السجن، والحديث معهم، لأنه كان لديه فضول ومشاعر إنسانية اتجاه المهمشين والفقراء المسجونين.

أشير هنا إلى أن“ثعالب من عسل”سجل توثيقي صادق، للتعريف بأحوال العراق العامة عند كتابة هذه الرواية، فالناس خلال تلك الحرب الدموية فقد الكثيرون منهم المشاعر الإنسانية، وتحولوا إلى جفاة قساة على أي ضحية يسوقها لهم القدر، فحلاق السجن “جوحي” يتفنن في السخرية من المساجين بحلاقة نصف شواربهم، وجزءاً من حواجبهم، ليتيح فرجة ضاحكة لموظفي وموظفات السجن، أما المعينة “أم حسن” القادمة من أفقر مناطق العراق تقوم بذر التراب الذي تكنسه من الأرضية بوجوه السجناء على أنها بودرة تجميل، وتزغرد مبتهجة بتعذيبهم، ومدير السجن يقف وقفة رجال الكابوي في الأفلام، وهو يتلذذ بمناظر التعذيب.    

الرواية تحكي بعد صفحات من وصف ذلك الفضاء الجحيمي، أنتهاء محكومية هؤلاء الغجرالثلاثة وكانت مدتها سنة واحدة، ولكي يردوا الجميل لهذا الصيدلي  دعوه ليزورهم في مخيمهم بالفوَّار، لكي يتعرف على عالم الكاولية عن قرب، وليس كما يشاع عنهم من أقاويل، وعند حصوله على إجازة من عمله لعدة أيام يتوجه إليهم بسيارته القديمة، قاطعاً المسافات الشاسعة الجرداء خارج بغداد لكي يصل إلى الفوّار ، وهناك يضعه أبو صباح وغجرياته في أحداق عيونهم.

تاريخ الكاولية

يرجع المؤرخون أصول الكاولية إلى الهند وإيران، وشعوب وسط وجنوب آسيا، هاجروا عن أراضيهم لأسباب مجهولة في القرن الرابع الميلادي، وانقطعت أخبارهم فترة طويلة ليظهروا مجددا أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، ولهم عادات ومعتقدات غريبة لاعلاقة لها بالمسيحية أو أي دين توحيدي آخر، وليس لديهم تأريخ مكتوب، ولم يوجد مؤرخ واحد من الكاولية ليحكي للعالم قصة هذا الشعب، ويسميهم العرب بأسماء مختلفة منها:(الكاولية في العراق).

  وهم شعب يحب الترحال، ولا يرغب في الاستقرار طويلا في منطقة واحدة، وأن بقاءهم في مكان واحد فترة طويلة يؤدي بهم إلى الموت في وقت مبكر، وفي العادة كما جاء في الرواية” قد يشترك عدة أخوة بالزواج من واحدة، والأبناء يصيرون أبناءً للجميع” إضافة إلى عادات غريبة أخرى لا متسع لذكرها هنا.

حرب البَسُوس

عاش الكاولية عبر التأريخ يعانون من الفقر وقلة التعليم، وخمول الذكر، ويصفهم أهل المدن التي يصادف مرورهم بأراضيهم، أثناء ترحالهم المستمر، بأنهم مريبون،  خطافون للأطفال، يسرقون الملابس،  وأغلب تلك التهم التي تسند لهم مجرد تهم، ربما تخص مجموعات صغيرة من الكاولية، لا يمثلون المجموع، وكما في باقي الشعوب ففيها الصالحون والطالحون.

ويعتقد شيوخ الكاولية الذين سكنوا أرض العراق أن أصولهم عربية، ولا ينحدرون من أصول هندية أو إيرانية، وتعود أصولهم إلى قبيلة بني مرة العربية، التي حاربها الزير سالم، وانتصرعليها في»حرب البَسُوس»، وشتتها في الأرض وفرض على رجالها عدم ركوب الخيل، وأن لا يذوقوا طعم الاستقرار والراحة.

عالم غريب

عاش الصيدلي عدة أيام في ضيافة أبي صباح في الفوّار وكان لديهم دكان تديره أم صباح وحفيدتها صابرين، وعرض أبو صباح على الصيدلي أن يتزوج “فضاء” التي عشقها وعشقته حالما رأته في المخيم، وقد عرف الصيدلي أن فضاء متزوجة من ولده غانم، ولكن أبو صباح أخبره أن غانم مشغول عنها بثلاث زوجات أخريات، وعرض عليه أن يفتح له عيادة في المخيم ويعيش معهم مزاولا مهنة الصيدلة، تاركاً المدينة وعبثها غير المجدي، فأخبره الصيدلي أنه متزوج ولديه أطفال، فاحتج أبو صباح عليه قائلا أن الإسلام يبيح الزواج بأربعة.

  عالم“ثعالب من عسل”عالم غريب وجديد على القارىء العراقي والعربي، كتبها السباهي بلغة شعرية واتصفت بالوصف الدقيق للمشاعر وصور الحياة بمخيم الكاولية.

كاتب مقيم بالمغرب


مشاهدات 47
الكاتب فيصل عبد الحسن
أضيف 2025/05/14 - 4:31 PM
آخر تحديث 2025/05/15 - 11:57 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 628 الشهر 18513 الكلي 11012517
الوقت الآن
الخميس 2025/5/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير