صفحات من حياة محمد حسين عبد الرحيم
قلب من تربة فلسطين ونبض من ماء دجلة
رائد فؤاد العبودي
هناك رجال لا تصنعهم الجنسيات، ولا تحددهم أوراق الهوية إنهم أبناء الأرض حيث يزرعون قلوبهم، وأبناء الحلم حيثما أضاءت أرواحهم وفي بغداد، حيث تفرد السماء عباءتها فوق دجلة، وتغسل دروب المدينة بدموع التاريخ، جاء محمد حسين عبد الرحيم إلى الحياة عراقيُّ الملامح، فلسطينيُّ الجذور، من أبوين فلسطينيين اقتلعتهم النكبة من أرضهم وألقت بهم على مفترقات المنافي.
وُلِدَ الفتى الذي أسماه أبوه (محمد)، فتلقّفه وطنٌ أسماه اللـــــــه (العراق)… فتح له ذراعيه دون أن يسأله عن أصله، كما تفتح النخلة ظلها الوارف لوليٍّ ينشد الأمان وبقلبٍ أخضر ولهجةٍ عراقيةٍ قُحّة، أصبح منذ أن فتح عينيه عراقيًا أكثر من '' سبّاحة '' حيّاوية، نبتت على ضفاف الغراف.
عراقيًا منذ شهقة ولادته الأولى، دون الحاجة إلى شهادة انتماء، وسندبادًا محليًا يطوف أزقة بغداد يتهجّى أسماءها، يحفظها كطفلٍ يحفظ سور القرآن، ويحفرها في قلبه كما يحفر عاشقٌ اسم معشوقته على جدار الخافق.
وفي التسعينيات، حين انكسرت بغداد على أطراف رغيف الخبز، وصار المواطن يتساقط قطعةً قطعة، بقي محمد حسين عبد الرحيم مخلصًا حمل العراق على ظهره كأنه يسوع من بلاد الرافدين لم يهرب، لم يسعَ إلى جواز سفر أجنبي، لم يهاجر، ولم يتاجر بمبدأ، رغم أنه كان بإمكانه أن يفعل، وكان العالم كله سيفهم ويغفر. هذا الإنسان النبيل، كان واحدًا من القلائل الذين تكلموا يوم كان الكلام انتحارًا بطيئًا .شاهدته واقفًا على شاشة (تلفزيون الشباب)، ينتقد قسوة الظروف ومعاناة الفنانين والمواطنين ببساطة وصدق ونبل، حتى نبّهته المذيعة، فاكتفى بجملة قالتها عيناه: (المواطن يعرف… والفنان يعرف… والتاريخ سيشهد!).
في الدول العربية، حيث تزدهــــر صناعة الغربـــة في الأوطــان، وتُكــــــــــرَّس سياسة إبقــاء المواطن محروماً من أبسط حقوقه كإنسان قبل أن يكون مواطنًا، بقي محمد حسين عبد الرحيم بدون جنسية عراقية حتى سنوات قليلة مضت. لم يخدم في الجيش، لا لأنه هرب أو تخاذل، بل لأن نصوص القانون قالت له: أنت موجود… ولكنك غير موجود!
شهادة ميلاد
لم تكن الجنسية العراقية شهادة ميلاد جديدة لمحمد حسين عبد الرحيم ، بل كانت اعترافًا متأخرًا بأن هذا الفنان لم يكن يومًا أقل عراقيةً من أي مسؤول كبير حمل جواز الوطن بالولادة وأفرغ خيراته في أفواه الغرباء. محمد حسين عبد الرحيم وُلِدَ عراقيًا دون الحاجة إلى شهادة ميلاد عثمانية أو تبعية، لأن بغداد أنجبته يوم أنجبت دجلة. هذا المبدع، الذي طالما رطّب شفاه الوطن المتيبسة بابتسامة من ندى الفرح، ليس مجرد ممثل، بل هو ابن العراق بالألم والسرور، بالصبر والانتظار، بالوفاء الأبدي الذي لا تُلينه خيبة أمل أو سوء معاملة.
ولو سألت دجلة عنه، لقالت لك: (هذا الولد من مائي وطيني)، ولو فتّشت في عروق النخيل، لسمعت صوته ينبض في قلب الجُمّار. وكما في كل حكاية في هذا الوطن، لا يكتمل الفرح فقد تعرّض محمد حسين عبد الرحيم إلى اعتداءات مشينة، لم تمس شخصه وأسرته فقط، بل كانت طعنات في خاصرة العراق نفسه، في رمزه الذي ظل وفيًا رغم الجراح. جلس محمد حسين عبد الرحيم في داره المتواضعة يضمّد جراحه، وخلفه تمر مشاهد عمره كلها: مسرحيات أضحكت قلوب الناس، حوارات نطق بها ما عجز عنه الآخرون، ولوحات رسم بها حبه لهذا الوطن بألوان الظِليمة.
الكتابة عن محمد حسين عبد الرحيم ليست أرشفةً لحياة رجل وحسب، بل هي نحتٌ في ذاكرة الوطن لدرسٍ خالدٍ في الوطنية والكرامة والإخلاص ونكران الذات، درسٌ لا يحتاج إلى أختام ولا شهادات وهي، فوق ذلك، عرفانٌ مضيء لنجمة عراقية عُلِّقت في فضاء الثقافة والابداع، وتحية وفاءٍ لرجلٍ قدّمَ لوطنه كل ما استطاع، وبقي قلبه مشرعاً لشعبه الى الأبد. فلسطين أنجبت محمد حسين عبد الرحيم ، لكن العراق هو الذي أنبته في ترابه، ورعاه غصنًا وارفًا في سمائه.
إنه أجملُ ما أنجبت فلسطين، وأوفى من احتضنه العراق.