أذن وعين
في تذكّر وحدة مصر وسوريا
عبد اللطيف السعدون
بعد أكثر من سبعة عقود على اعلان وحدة مصر وسوريا يصبح الحديث عنها ضربا من النوستالجيا الحالمة بزمان عبر، ولم يعمر الحدث بعظمته وعنفوانه أكثر من ثلاث سنوات وسبعة أشهر كانت حافلة بالآمال الكبار، وأيضا بالعواصف التي أخذت من عظمتها وعنفوانها حتى أردتها قتيلة ليس بأيدي خصومها الذين تنكروا لها منذ اعلانها فحسب، وانما أيضا بأيدي دعاتها وأصدقائها الذين ساهموا في ولادتها وتحمسوا لها ثم تنكبوا الطريق، وتربصوا فرص الايقاع بها مستغلين أخطاء رجالها، وبعض الأخطاء صارت خطايا، وجاء انقلاب الانفصال ليثير الأسى في نفوس من رأى فيها تحقيقا لهدف كبير ناضلت من أجله أجيال، بعد تلك العقود انكشف كثير من وقائع ظلت غائبة عن العيون زمنا مديدا، وقد وجدنا في بعضها ما يستدعي هذه الحاشية للتأشير عليها لعل الاعتبار بها يكون ممكنا.
دولة جديدة
واحدة من تلك الوقائع المهمة أن عبدالناصر كان الوحيد من بين الذين تفاوضوا وتبادلوا وجهات النظر في ولادة الدولة الجديدة، ومن بينهم الضباط السوريون الكبار الأربعة عشر الذين جاءوا القاهرة داعين لإقرار الوحدة «قبل أن تضيع سوريا»، الذي أدرك المسار مبكرا، وتنبأ بحصيلة ما قد يحدث لكنه لم يشأ أن يسجل التاريخ عنه أنه رفض قيام الوحدة وأضاع سوريا، وبحسب ما قالته ابنته هدى ان والدها صارح الضباط الذين جاءوا من دون معرفة حكومتهم بالغاية من سفرهم بوجهة نظره في أن يتم طرح مطلب الوحدة عبر المؤسسات الدستورية، مقترحا البدء بوحدة عسكرية وسياسية وثقافية على مدى خمس سنوات كمرحلة انتقالية قبل ان تتم الوحدة الدستورية الكاملة، ولو تم ذلك لربما نجت دولة الوحدة من الفخاخ التي نصبت أمامها، ولاستقر الشكل الدستوري على النحو الذي يضمن سلامة الدولة الجديدة وتقدمها.
اتسمت رؤية عبد الناصر تلك بالوضوح فيما لم يكن في أذهان من تفاوض من السوريين، وبينهم قيادات بعثية وازنة، مشروع مكتمل لدولة الوحدة، أو حتى رؤية واضحة في كيفية توزيع السلطات وادارة الدولة ربما لقصور تجربتهم العملية أو لعجزهم عن قراءة ما يدور من حولهم، أو ربما نتيجة ضغط المد الشعبي المطالب بالوحدة عليهم.
وهكذا وقعت سلطات الدولة الجديدة مبكرا في أخطاء وخطايا جعلت السكاكين تتكاثر عليها، ولم تكن معالجتها بالسهولة التي نراها نحن بعد تلك العقود المديدة فقد خلق عبد الحكيم عامر والسراج في سوريا «دولة عميقة» مطلقة الصلاحيات ومنفصلة عن الناس حولت البلد الى سجن كبير، وأثارت السخط والنقمة، وحسب رواية هدى فان عبد الناصر عندما وصلته أخبار هذه الممارسات لم يكن راضيا، وكان بصدد اتخاذ الاجراءات المناسبة، ولكن الأمور جرت بسرعة على نحو آخر متجهة نحو الانفصال.
يشار في وثائق ونشريات رصدت الحالة السورية في تلك الفترة الى عوامل أخرى ساهمت في تردي الحال مثل الأضرار التي أصابت الاقتصاد السوري جراء القرارات الاشتراكية التي لم تراع أوضاع سوريا المحلية، وشعور البرجوازية الوطنية أنها ضربت في مقتل، وكذلك حل الأحزاب والتضييق على الحريات، وممارسة نوع من «الهيمنة» المصرية على كل ما يرتبط بسوريا دون اعتبار لخصوصية وضعها ووضع أهلها.
وعلى هامش «وضع أهلها» يتندر من عاصر التجربة برواية يزعم أنها صحيحة مفادها أن الرئيس السوري شكري القوتلي قال لعبد الناصر غداة اقرار ميثاق الوحدة: «لقد سلمتك ستة ملايين سوري (سكان سوريا آنذاك)، ثلاثة ملايين يعتبرون أنفسهم أنبياء، وثلاثة ملايين مثلهم يعتبرون أنفسهم زعماء»، يضيف الراوي أن «الأنبياء» و»الزعماء» تظافروا معا لإجهاض الوحدة!
ثمة عامل خارجي لعب دوره أيضا تمثل في خشية قوى دولية واقليمية، وعربية من أن تكون “الجمهورية العربية المتحدة» قادرة على استقطاب أقطار عربية أخرى بحيث تشكل قوة اقتصادية وسياسية ذات تأثير وفاعلية في اقليم واعد وزاخر بالثروات، وهو ما دفع تلك القوى الى التآمر المعلن عليها حينا، أو الكيد لها سرا مرات ومرات!
وعلى أية حال، وبعد أكثر من سبعة عقود يبقى من وحدة مصر وسوريا ذلك الطعم الرومانسي الحالم الذي يذكرنا بعروبتنا التي اهتزت على وقع تراجع الهوية القومية لبلداننا وصعود الهويات الفرعية من طائفية وعرقية، وبفعل خطوات التطبيــــــع والتصــــــــــــالح مــــع العــدو، والسياسات الشريـــــــــرة لبعض الأنظمة التي فرقت أبنــاء الأمة وشرعنت الحروب بيــــن بلدانها.