الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هشام المدفعي .. سردية الإعمار والهندسة الإستشارية 1-2

بواسطة azzaman

شخصيات عرفتها 
هشام المدفعي .. سردية الإعمار والهندسة الإستشارية    1-2
صلاح عبد الرزاق
هشام المدفعي من أساطين الهندسة المدنية في العراق ، ويختزن ذاكرة المشاريع الهندسية والعمرانية منذ مجلس الأعمار في منتصف الخمسينيات. سبعون عاماً من الخبرة والعمل في المشاريع الكبيرة في العراق ، وترك بصماته عليها . 
العائلة 
ينتمي هشام إلى أسرة بغدادي عريقة هي أسرة المدفعي. وجاء لقب المدفعي لأن جده علي أغا ووالده حسن فهمي كانا من ضباط صنف المدفعية في الجيش العثماني. وكان جده من أصول كردية وزوجته من أصول عربية. فجده ينتمي إلى قبيلة (دزئي) المعروفة في أربيل ، وقيل أنها نزحت من قرية (دزئي) الايرانية قبل قرون. لأسباب عسكرية تم نقل ضابط المدفعية علي محمد أغا دزئي إلى بغداد ، فاستقر في محلة الفضل. وهناك تكونت لديه علاقات مع أهل الفضل لاسيما أسرة أحد الضباط من أولاد الحاج حبيب العزي ، فتزوة ابنته (بزمي عالم). أنجب منها أربعة أبناء وبنت واحدة، وهم محمد أمين زكي ومحمد صالح علي ، حسن فهمي علي ، وزكي علي، وأمينة التي تزوجت من محمود رامز. 
كان والده حسن فهمي الابن الثالث لعلي أغا وقد ولد في 13 نيسان 1885 في محلة الفضل ، وتوفي في ١٧ تشرين الثاني 1946. أكمل الابتدائية والثانوية الرشدية في بغداد ، ثم التحق بمدرسة المدفعية في إسطنبول وتخرج منها. شارك حسن فهمي في معارك الحرب العالمية الأولى ، وأصيب في معركة (جناق قلعة) التي انتصر فيها العثمانيون على الاسطول البريطاني. وانخرط مع ضباط آخرين في الثورة العربية التي قادها شريف مكة الحسين بن علي، ثم التحق بجيش الأمير فيصل في سوريا. بعد فشل الحكومة عاد إلى العراق برفقة الضابط جميل المدفعي. عام 1921 انضم للجيش العراقي الناشئ وتنسب إلى سلك الشرطة ، فعمل مدير لشرطة قضاء سامراء ثم مديراً لشرطة الديوانية بعدها لكركوك عام 1927. نقل إلى بغداد وانتقل بين مناصب الشرطة حتى صار عام 1937 مديراً عاماً للشرطة. 
تزوج من رمزية من أسرة الهرمزي والنفطجي التركمانية في كركوك ، لكنها توفيت بعد سنة من زواجها ولم تنجب. في عام 1925 تزوج حسن فهمي المدفعي من ابنة الشيخ نوري إسماعيل الشيرواني من علماء بغداد وأصله من مدينة شيروان مازن الواقعة في قضاء (ميركه سور) التابع لأربيل. 
في السنوات التالية أصبح متصرفاً لعدد من الألوية وهي الرمادي والحلة والديوانية وبغداد وكركوك التي توفي فيها عام 1946. وفي كل مناصبه كانت أسرته تنتقل معه كما هو شأن موظفي الحكومة. 
من إنجازات حسن فهمي المدفعي قيادته في منتصف الثلاثينيات لفرقة استكشاف وفتح طريق الحج البري ، بين الكوفة ومكة المرمة. ورافقه في هذه المهمة الصحراوية المهندس شوكت منير والدكتور سلمان فائق وخبراء آخرون. وتضمنت المهمة تحديد مسارات الطريق الصحراوي الذي كان قائماً منذ العصر العباسي ، ووضع العلامات الثابتة وإنشاء القناطر على الأودية والاتصال بشيوخ العشائر التي يمر الطريق بمناطقهم. (١) 
النشأة 
ولد هشام المدفعي في 28 تشرين الأول عام 1928  في الأعظمية. وهو الابن الثاني من خمسة إخوة وأخت واحدة ، هم قحطان وهشام وسهام وعصام وإلهام وميادة. وقد أطلق الشاعر معروف الرصافي اسم ميادة لأنه كان صديقاً لوالده. كان والده محباً للأدب ويقتني الكتب ، ولديه مجلس أدبي عامر يستضيف فيه الأدباء والشعراء والصحفيين. 
كانت والدته سيدة مجتمع تستقبل مع والده معظم المستشارات الاجنبيات . وكانت تحضر الدعوات الرسمية بلا حجاب او عباءة. وهي ابنة الشيخ نوري إسماعيل وشقيقة قتيبة الشيخ نوري وإبراهيم الشيخ نوري. وكانت مثقفة تتابع الاحداث السياسية وتحدث بها أولادها مثل مقتل توفيق الخالدي وبكر صدقي ورستم حيدر. 
بعد وفاة والد هشام تولت والدته المسؤولية كاملة. فباعت الدار في الكرادة الشرقية وبنت منزلاً جديداً في شارع أم الربيعين الموازي لشارع طه في الأعظمية ، وانتقلوا إليه عام 1947. وقد صممه وأشرف على تشييده المهندس المعماري جعفر علاوي. وعندما سافر أخو الأكبر قحطان إلى بريطانيا لدراسة العمارة أصبحت والدته تعتمد على هشام في مراجعة الدوائر الحكومية ومتابعة شؤون العائلة. توفيت الوالدة عام 2000 عن عمر 89 عاماً. 
مراحل الدراسة
أول خطوات الدراسة لهشام المدفعي كانت في روضة مسيحية في منطقة ارخيته حيث بدأ تعلم الكتابة والقراءة. ثم التحق بالمدرسة المأمونية الابتدائية في منطقة الميدان ، بجوار وزارة الدفاع. كان يذهب ويعود مع أخيه قحطان يومياً بسيارتهم الخاصة التي يقودها السائق قدري. وكان في الصف الثاني عندما وقع انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936. فجاء السائق وأخذهم إلى المنزل بعد سماع أصوات انفجارات. 
في عام 1944 انتقل هشام إلي الإعدادية المركزية في منطقة القشلة. فانتظم في الصف الرابع علمي. وكانت تضم كبار الأساتذة مثل صادق الأعرجي مدرس العربية وفؤاد الانكورلي مدرس الحيوان ومنعم لعلم مدرس النبات وعطا صبري للرسم وعلي الوردي مدرس الاجتماع ، إضافة إلى صادق الملائكة ومدير المدرسة رشيد شلبي. وكان من زملائه منذر الشاوي ونزار الشاوي ومصطفى البحراني وعدنان الربيعي وسعدون القصاب وشاؤول اليهودي وضياء النقيب. 
في عام 1946 دخل هشام كلية الهندسة في قسم البناء وكان والده متصرفاً للواء كركوك آنذاك ، فتقدم على حصة كركوك في الكلية. بعد أسابيع من الدوام في الكلية توفي والد هشام اثر انفجار شرياني في الدماغ ، وهو عائد بالسيارة من مهمة رسمية من بغداد إلى كركوك. وكانت الطالبة سعاد علي مظلوم إحدى طالبات ثلاث في الكلية ، والتي تزوجها فيما بعد. والطالبتان الأخريان مسيحية ويهودية. وكان هناك عدة طلاب أردنيون يدرسون الهندسة ثم عادوا إلى بلدهم وتنسموا مناصب عليا هناك منهم أحمد فوزي أمين العاصمة عمان وسعيد بينو وزير الأشغال وآخرين. 
كانت كلية الهندسة تقع في باب المعظم ، وهو بناء مهيب مشيد من الطابوق وواجهات واسعة ، وأعمدة آجرية عالية تكسبها هيبة وعراقة. وكانت باب المعظم تعج بالمؤسسات العلمية والثقافية مثل كلية الحقوق ودار المعلمين العالية والكلية الطبية ومعهد البنات والمتوسطة الغربية والمكتبة العامة. وتزدحم المنطقة وشوارعها يومياً بالطلاب صباحاً ومساءً. ودرس هشام تحت يد أساتذة أكفاء عراقيين وأجانب من الهند وكندا وانكليز. 
يقول هشام في مذكراته (كانت الأفكار الشيوعية متغلغلة بين طلاب كلية الهندسة. وكنت أشعر أن أغلب طلاب الكلية يحمل أفكاراً تقدمية ، وينظرون إلى القضايا المختلفة نظرة منفتحة ومتطورة. وكانت الدعوة إلى محاربة الاستعمار وعملائه في أوجها. وكان بعض زملائي من تيارات أخرى مثل عفيف الراوي من البعثيين ، وعدنان رانية من الاخوان المسلمين، وخير الدين الملا حمادي من القوميين. أما أنا فلم أفكر مطلقاً بالانتماء إلى أية حركة سياسية. كما لم يفاتحني أحد من أصدقائي بالانتماء إلى حزبه. 
وعندما اندلعت وثبة كانون الثاني 1948 كانت كليتنا مع الكليات المجاورة في طليعة التظاهرات الكبيرة التي خرجت ضد توقيع الحكومة العراقية برئاسة صالح جبر على معاهدة بورتسموث في إنكلترا). (2) 
تخرج هشام في 20 حزيران 1950 في الدورة الخامسة لكلية الهندسة. وقد أقيم حفل التخرج في حدائق قاعة الملك فيصل الثاني (الشعب حالياً) في باب المعظم والمجاورة لوزارة الدفاع. وقد تم تكليف هشام من قبل عميد كلية الهندسة الإنكليزي رتجي Ritchi. وحض الحفل وزير المعارف وشخصيات علمية وسياسية واجتماعية رفيعة المستوى ، إضافة إلى أهالي الطلبة المتخرجين. وكان عدد المتخرجين أربعين خريجاً. 
العمل في القطاع الحكومي
لم يكن الحصول على عمل حكومي متيسراً ، فقد رفضت طلباته من قبل جعفر علاوي  ومدحت علي مظلوم اللذين كانا يرأسان دوائر هندسية. لقد كان هشام بحاجة إلى واسطة للحصول على عمل. قامت والدة هشام بالاتصال بأحد معارفها وكان على صلة بعبد الرزاق شكارة مدير عام البلديات العامة، فوافق على تعيينه مساعد مهندس في فرقة للمسح الهندسي في الموصل في آب 1950. 
التحق هشام بعمله في الموصل وكان عمله يتركز على تنظيم ورسم خرائط للشوارع والساحات والدور وبقية الأبنية الموجودة. سكن في بيت موصلي قديم بلا أثاث سوى فراش النوم على الأرض ، ومنضدة يضع عليها كتبه وحاجياته. 
في الخمسينيات كانت المشاريع الكبرى يختص به المهندسون والشركات الأجنبية مثل المحطة العالمية والمجلس الوطني والبلاط الملكي (القصر الجمهوري فيما بعد) والمطارات والسدود. أما المشاريع الصغيرة فقد عُهد بها إلى دوائر الاشغال العامة مثل شق وصيانة الطرق والأبنية المدرسية أو الأعمال البلدية ، وفيها فرص لعمل العراقيين المبتدئين. 
كان المهندس خيري سعيد يعمل في مديرية الأشغال العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، فشجع هشام على الالتحاق فيها ، فانضم إليها في أوائل 1951 وكانت بإدارة العقيد غازي الداغستاني. تم تنسيب هشام للعمل كمهندس مقيم في مطار الموصل العسكري. ورغم ممانعته لكن الأمر الإداري قد صدر وقبل بالعمل في مطار الغزلاني الذي كان طور الإنشاء. 
في عام 1953 كان مظفر أحمد أميناً للعاصمة ، وله علاقة بوالد هشام المدفعي. اتصلت به والدته فوافق على تعيينه في الأمانة ، في دائرة الطرق في الكرخ. وكان تبليط الطرق الرئيسة في بغداد تقوم به شركة كات CAT اللبنانية. في عهد وزارة نوري السعيد لسنة 1953 جاء عبد الله القصاب أميناً للعاصمة، فاتفق مع نوري السعيد على تخصيص مبالغ كافية لتشغيل العمال العاطلين من خلال تنفيذ خطة تبليط الشوارع والأزقة الداخلية لجميع مناطق بغداد ، على أن يكون العاملون في تلك المحلات من أبنائها ، وبالتنسيق مع مختاري المحلات البغدادية. وقد تم اختيار هشام ليكون مسؤولاً عن المشروع في جانب الكرخ من محلة الجعيفر إلى الكريمات. استمر المشروع لعدة أشهر وكانت نتائجه جيدة هندسياً واجتماعياً. فقد شعر المواطنون أن الدولة أخذت تهتم بأمرهم بعد وصول عائدات النفط وفق الاتفاقيات الجديدة مع الشركات النفطية العاملة في العراق. 
 لم يكن العمل في شعبة الطرق بأمانة بغداد لتقنع شاباً مهندساً طموحاً ، فقام بزيارة رئيس الهيئة الفنية في أمانة بغداد بهنام زبوني في دارة بالعلوية ، وطلب منه العمل في مشاريع أكبر تتناسب وقدراته وطموحاته. لكن رئيس الهيئة اعترض على كلامه وقال له أن لكل عمل ثمن ومتطلبات. أصيب هشام بالخيبة فتوجه إلى شركة نفط العراق التي كانت لها مشاريع هندسية كبيرة في العراق. علم أن شركة نفط البصرة لديها وظائف ، فتقدم للعمل فيها ، فقبل طلبه ووافقت الشركة على تعييني بصفة مهندس متعاقد STAFF. فاستقال من أمانة بغداد ، والتحق بالعمل في البصرة. وكان أول مهندس عراقي يتم التعاقد معه في هذه الشركة. 
بعد آن عمل في حقول النفط في البصرة ، نقل إلى ميناء الفاو لتصدير النفط. وتم تنفيذ أعمال هندسية منها إنشاء شبكة من الطرق تربط الميناء بالمنطقة السكنية الجديدة التي باشرت الشركة بتشييدها بين أشجار النخيل. 
زواج هشام وأجواء البصرة
في عام 1953 تزوج هشام المدفعي بالمهندسة سعاد علي مظلوم ، وكانت زميلته في الكلية ، ووالدها أستاذ في الرياضيات ، وكان قائممقام قضاء النجف. وأما إخوانها فكانوا مهندسين معماريين معروفين وهم مدحت علي مظلوم وسعيد علي مظلوم. تم تخصيص دار له في شارع دينار في منطقة العشار بالبصرة. سافر العروسان إلى أربيل في مصيف حاج عمران لقضاء شهر العسل لمدة أسبوع. ورزق منها ببنت هي غادة وابن اسمه كميت. 
كان عمله في شركة نفط البصرة مثمراً واكتسب خبرات فنية ومهنية ، وتعرف على شركات عالمية. كما تفاعل مع أجواء البصرة الاقتصادية والنفطية والتاريخية. وكانت البصرة مركزاً تسويقياً لأبناء الخليج ولا سيما أهل الكويت الذين كانوا يرتادون البصرة في نهاية كل أسبوع للراحة والاستجمام والتسوق. وكانت نواديها الاجتماعية كنادي الميناء ونادي السكك ونادي شركة النفط ونادي الرافدين والمراكز الترفيهية الأخرى مزدحمة دوما بالزوار والضيوف من أنحاء العالم ، من بحارة وطيارين وفنيين ورجال أعمال وغيرهم. 
 بعثة إلى بريطانيا 
يقول هشام المدفعي (في إجازتي السنوية التي قضيتها في بغداد في ربيع 1955 ، زرت المعرض البريطاني الذي أقيم في منطقة كرادة مريم، وكان مناسبة اقتصادية وعلمية فريدة. والمعرض تمت استضافته في برنامج تلفزيوني لمدة 15 دقيقة. 
أثناء اللقاء علم أن زمالات دراسية تمنح من قبل المعهد الثقافي البريطاني والتدريب والدراسة على حساب اتحاد الصناعات البريطانية في إنكلترا. دخلت المعهد الذكور ونجحت في الامتحان متفوقاً ، ومنح الزمالة الدراسية لمدة سنتين في بريطانيا). (3) 
لم يكن هناك مخرج سوى الالتحاق بوظيفة في مجلس الاعمار ، ثم وافق مجلس الاعمار على إيفاده للتدريب على تصاميم مشاريع الهندسة المدنية الثقيلة. 
كما تم تعيين زوجته في مجلس الاعمار بعد شهرين من سفره إلى بريطانيا، ثم استطاعت الحصول على الموافقة بالدراسة على نفقتها الخاصة ، على أن تستحق راتبها خارج العراق. 

السفر إلى لندن 
في أيلول ١٩٥٥ استقل هشام المدفعي سيارة نقل الركاب المعروفة لشركة (نيرن) من بغداد إلى دمشق ثم بسيارة أصغر إلى بيروت. من هناك ركب الباخرة (اسبيريا) المتجهة إلى أوربا. وصل إلى نابولي بإيطاليا ثم ركب القطار إلى روما ثم ميلانو. وسافر بالقطار إلى باريس ثم عبر بحر المانش إلى لندن. 
بعد وصوله لندن ذهب إلى اتحاد الصناعات البريطانية حيث استلم توجيهات التدريب والدراسة والمخصصات. وفي لندن التقى بمهندسين عراقيين مثل رمزي الريحاني وشهاب أحمد الصافي وفليح حسن ورشيد الرفاعي. 
بدأ هشام العمل في شركة ويمبي ذات المشاريع الهندسية الكبرى ، واستأجر شقة في منطقة شيبرد بوش Shepard›s Bush مع زوجته التي التحقت به. كان يعمل في النهار ، ويقي ساعتين في الدراسة المسائية والاستعداد لامتحان الحصول على شهادة عضوية معهد المهندسين الانشائيين في بريطانيا. 
اندمج هشام بالحياة الإنكليزية حيث هناك أوقات لممارسة الهوايات وإقامة العلاقات مع الأصدقاء، وزيارة الحدائق وحضور الحفلات الموسيقية في قاعات لندن ، ومشاهدة مسرحيات وفعاليات واستعراضات. كما أخذ يتجول مع زوجته في مناطق لندق والريف الإنكليزي ومدن بريطانية أخرى. 
سرعان ما انقضت السنتان وصار يخطط للعودة إلى العراق. وقد استدعاه مسؤول في شركة ويمبي وعرض عليه البقاء في بريطانيا والتعاقد مع الشركة بشروط جيدة لكنه أجابه بأنه موظف لدى الحكومة العراقية التي أرسلته للتدريب والتعلم ، وهي تنتظر عودته لخدمة وطنه. 

العودة إلى بغداد بالسيارة
قرر هشام العودة إلى بغداد بالسيارة حيث كان مسيره يمر بباريس وشتوتغارت وميونيخ في ألمانيا ، وعبر جبال الألب نحو شمال إيطاليا ، ثم بلغراد في يوغسلافيا ، ثم سالونيك في اليونان. بعدها يعبر إلى تركيا مروراً بإسطنبول وأنقرة وجبال الأناضول وأدنة. ثم عبور الحدود السورية مروراً بحلب باتجاه الأردن حيث وصل إلى منطقة أچ فور H4 وهي بالأصل محطة ضخ النفط العراقي اإى ميناء التصدير في حيفا. وصل إلى أقرب مدينة عراقية وهي الرطبة التي تبعد ٤٥٠ كيلومتراً عن بغداد ، وسط طريق صحراوي غير معبد. استغرقت الرحلة ٢٢ يوماً من التعب وقيادة السيارة ومشاكل الطريق. 

العمل في مجلس الاعمار 
بعد أن حصل على الخبرات العالية وتعرف على التقنيات الحديثة في البناء ، عاد المدفعي إلى عمله في مجلس الاعمار. إذ تم تعيينه في مصلحة المصايف والسياحة ، وكُلّف بوضع التصاميم الهندسية لمشاريع المصلحة. كانت النية متجهة الى تشجيع العمل السياحي واستغلال خطوط السكك الحديد التي تصل إلى مختلف مدن العراق، ولهذا الغرض تشكلت دائرة للسياحة مرتبطة بمديرية السكك الحديد. وكان المهندس المعماري عبدالله احسان كامل يعمل في هذه الدائرة مع مهندس بريطاني اسمه هيرتس Herts. وقد قاما بوضع تصاميم كل من فندق سرسنك ودار الاستراحة في مصيف الحاج عمران، وفندق صلاح الدين الجديد. 
بعد ذلك تم ربط دائرة المصايف بوزارة الاعمار، والتحق بها المهندسون عدنان الربيعي وعبد الرسول خياط وفرحان جمعة وحسين النقشبندي. إضافة إلى المهندسين الألماني رنكل Runkle للتصميم الصحية ، والمعماري النمساوي هايدن Hydin ، والمعماري الإيطالي والآثاري سيسا SEISA. 

تأهيل دار الزعيم قاسم 
بعد أشهر من ثورة تموز ١٩٥٨ طلب المدير العام للمصايف والسياحة رشيد مطلك من هشام المدفعي وأخيه المعماري قحطان مرافقته لزيارة بيت الزعيم عبد الكريم قاسم الواقع في منطقة بستان الخس في البتاويين ببغداد. والهدف هو وضع تصاميم وإصلاح وتحديث الدار ليكون سكناً خاصاً مريحاً للزعيم. وكان رشيد مطلك صاحب مطعم شريف وحداد الواقع في مقدمة جسر الملك فيصل الثاني من جانب الرصافة. 
تبلغ مساحة البيت (٦٠٠) متر مربع ، وهو من أملاك اليهود المجمدة. والدار مشيد بالطابوق وفق طراز الثلاثينيات ومن طابق واحد، وخلفه حديقة بمساحة (٢٠٠) متر مربع. كانت هناك غرفة استقبال وغرفة معيشة وغرف نوم وحمام ومطبخ. وكان أثاث الزعيم بسيطاً جداً. غرفة النوم بلا سجاد ، وتضم سرير حديدي تستخدمه العائلات للنوم في السطح ، ودولاب حديدي مزجج أبيض اللون المستخدم عادة في المستوصفات الصحية. أمام الحمام ففيه حوض ماء من المزائيك مع طاسة لسكب الماء على الجسم، وتختة خشب للجلوس. والماء الحار يُسخّن من الخارج (خزان يسمى صفرية) بحرق النفط من الخارج (بريمس). أما المطبخ فليس فيه سوى طباخ ذو ثلاثة عيون وأواني وقدور وغيرها. بعد حساب الكلفة للتصاميم والتعديلات في الهيكل الانشائي والأثاث الذي يناسب الحياة الرسمية والضيوف العراقيين والأجانب ومتطلبات الحمايات، كان المبلغ التخميني هو (٢٢) ألف دينار. قدم هشام كشف بالكلفة لكن اتضح أن المبلغ يفوق ما خصص له ، وبذلك ألغي تأهيل الدار. 

إنشاء مدينة الثورة 
يروي هشام المدفعي قصة بناء مدينة الثورة فيقول: في أوائل عام ١٩٦١ قرر الزعيم عبد الكريم قاسم إخراج جميع سكان الصرائف إلى خارج مدينة بغداد ، وإخلائهم من الأراضي الخالية التي شيدوا عليها صرائفهم وأكواخهم، وإنشاء دور خاصة لهم. تمت المباشرة بالعمل وإنشاء (١٠٠٠) وحدة سكنية في شرق بغداد مع خدماتها على المستحقين من تلك العوائل. وأطلق اسم (مدينة الثورة) على ذلك المشروع. ولما كان عدد الدور غير كاف تقرر تخطيط الأراضي وفرزها وتوزيعها كقطع سكنية على المستحقين ، وهم يشيدون دورهم عليها. بعد إنشاء المشروع ازدادت الهجرة من أرياف جنوب العراق بلا تنظيم أو تحديد. وخلال المسنوات ١٩٥٩- ١٩٦٤ تم إنشاء (٢٠) آلف وحدة سكنية مع كامل الأبنية الخدمية اللازمة. 
مشروع قناة الجيش 
كانت مؤسسة دوكسياكس اليونانية قد وضعت تخطيطاً لمدينة بغداد ، يتضمن مواقع المشاريع السكنية ، ومنها استحداث قناة مائية في شرق بغداد بعرض (٢٠) متراً ، تنقل المياه من نهر دجلة شمال بغداد (صدر القناة) حتى نهر ديالى في جنوب المدينة. وعلى جانبي القناة شريط أخضر ، مع طريق رئيس للمرور على جانبي القناة ، لتسهيل الانتقال من جنوب المدينة إلى شمالها بسهولة. 
تم إعلان مناقصة المشروع عام ١٩٦١ ، وتقدمت عدد من الشركات الكبيرة. اقترح هشام المدفعي منح المشروع لمقاول عراقي على أن يناط الاشراف إلى أمانة العاصمة كجهة مستفيدة، وقدم تقريره إلى مجلس الاعمار. 
يقول هشام المدفعي: استدعاني الزعيم ومعه عدد من الضباط لشرح فكرة قناة الجيش وتوضيح تقرير الإحالة إلى الشركة العراقية. فتحت الخرائط وتحدثت عن المشروع وأهميته ، وملاحظاتنا حول المناقصين المتقدمين وأسعارهم وخبراته، وأنني أقترح منحه للمقاول الثاني لأنه عراقي ، وعدم تحويل العملة الصعبة وتشجيع المقاولين العراقيين. سألني الزعيم: كما تقدر أن ينقّص المقاول من أسعاره ليكون مؤهلاً لإحالة العمل إليه؟ أجبت: إن تم تخفيض السعر المقدم بنسبة عشرة بالمائة، فأنا أعتقد أن ذلك مقبول. فسألني: وماذا عن الجسور فوق القناة؟ أجبت: إن ذلك سيأتي في مناقصة لاحقة. اعترض قاسم وقال: وماذا يحدث لو تأخر إنشاء الجسور؟ وأراد الجيش أن ينسحب من بغداد لأي سبب؟ لم يكن عندي جواب سوى قولي: علينا إذن أن نعلن عن مناقصة الجسور فوراً. أجابني: كلا .. اطلب من المقاول الأول أن يصمم ويشيد الجسور. وضغط على زر الجرس المعلق فوق المائدة، وطلب من المرافق إحضار المقاول أو من يمثله ، وأضاف إن طعام الغداء (الكباب من ساحة الميدان) سنتناوله معاً لحين حضور المقاول، والتفت إليّ الأستاذ محمد حديد وزير المالية وتحدث حول إمكانية السيطرة على أجور العمال ، وتأثير ذلك على المشاريع. تناولنا الكباب المشوي والطرشي والخبز العراقي ثم شربنا الشاي العراقي. 
وحضر ممثل المقاول الذي لم يعرف سبب إحضاره عند الزعيم ، فكان خائفاً ومرتبكاً، فقال له الزعيم: لا تقلق نحن هنا للتحدث معك حول مشروع قناة الجيش. فقال أنه تم اقتياده من قبل بعض العسكريين ، وكأنه ملقى عليه القبض ، ويرجو إمهاله قليلاً ليسترد أنفاسه ويستريح. وشرح الزعيم سبب لقائه هذا ، وطلب منه تخفيض أسعار المناقصة المقدمة ، بعد أن طمأنه بعدم حدوث زيادة في أجور العمال. فتم الاتفاق على تخفيض السعر بنسب ١٠٪ ، وتم إبلاغه بإحالة المشروع إلى شركته. 

انقلاب شباط ١٩٦٣ 
كان هشام المدفعي في رحلة لزيارة مشاريع هندسية في عدة دول أجنبية. وفي يوم ٨ شباط ١٩٦٣ كان في كوبنهاكن بالدنمارك. بقي عدة أيام وكانت مهمته قد قاربت على الانتهاء، فقرر الذهاب إلى لندن . وهناك التقى بأصدقائه الذين نصحوه بالبقاء في لندن عدا السيدة سهير السنوي التي كانت تتمتع بزمالة دراسية للأمم المتحدة، فنصحته بالعودة.
خلال تلك الفترة وقبل عودته كان يتابع الصحف المصرية التي دعمت الانقلاب البعثي. وفي أحد الأيام قرأ خبر مثير بمصادرة أموال (٩٢) مليونيراً عراقياً. وكانت القائمة تضم أسماء مختلفة ومنها أسم هشام المدفعي برقم (٨٤) في القائمة. زار الوزير المفوض في السفارة العراقية بلندن صديقه أحمد الفارسي وسأله عن سبب حجز أمواله المنقولة وغير المنقولة. فأجابه إنه إجراء احتياطي تتخذه الحكومة في مثل هذه الأحداث. وأوضح هشام بأنه لا يملك سوى بيته الذي شيده بالدين في منطقة العلوية ، ومبلغ (١٨٠٠) دينار مودع في البنك. 

قرر العودة إلى بغداد ، ووصل إلى المطار متوقعاً اعتقاله مباشرة ، لكنه مر بسلام ، ووجد زوجته وأبناءه غادة وكميت بانتظاره. زاره عدد من أصدقائه في منزله وأخبروه بعزله من وظيفته وتعيين آخر مكانه. في اليوم التالي لوصوله ذهب هشام إلى دائرته وقدم تقريراً عن ايفاده وزياراته. ولما طلب منه التوسط له في قضية حجز أمواله أجابه: شلون أخابر الوزير؟ والدنيا مقلوبة. اجلس في بيتك واسكت. ثم أخبره بنقله إلى مديرية الإسكان العامة. 
في تلك الأجواء المضطربة نشرت صورة لعدد من الشيوعيين الذين زاروا الموصل بقطار السلام قبيل اندلاع حركة الشواف سنة ١٩٥٩ ، ويظهر فيها وجه هشام المدفعي. وهي كافية لاتهامه بالشيوعية ومساندة جماعة قطار السلام. وكان أخوه المهندس قحطان المدفعي قد تم اعتقاله ولم يلتق به بعد ، لكنه وبوساطة من أحد أصدقائه تمكن من زيارته ، وكان معتقلاً في أحد البيوت الواقعة مقابل سينما النصر في شارع السعدون. قدم هشام طلباً للحاكم العسكري حول أمواله فقرر رفع الحجز عنها . كانت أزمة مريرة جعلت هشام يفكر بترك الوظيفة الحكومية. 

افتتاح مكتب استشاري 
في عام ١٩٦٥ تفرغ هشام للعمل في مكتب شقيقه (قحطان المدفعي ومشاركوه) ، وصار يقوم بوضع تصاميم مشاريع زراعية مثل مشروع دواجن في إبي غريب و ثم مشروع دواجن المرادية. 
في أحد الأيام دعا أمين العاصمة مدحت الحاج سري هشاماً لزيارته، وجرى الحديث حول تطوير بغداد، وعرض عليه استلام منصب رئيس الهيئة الفنية في الأمانة. كما طلبه وزير البلديات إحسان شيرزاد لنفس الغرض. بعد التشاور مع شقيقه قحطان قرر قبول الوظيفة خدمة لمدينة بغداد. 

في أمانة العاصمة
في حزيران ١٩٦٧ التحق هشام المدفعي بمنصبه الرفيع ، وهي أكبر وظيفة فنية في أمانة العاصمة التي كانت تابعة لوزارة البلديات آنذاك. كانت الحدود البلدية لأمانة العاصمة تبلغ (٦٠٠) كيلومترا مربعاً. وكانت مساحة الرقعة المشيدة منها نحو (١٠٠) كم مربع. وكان نفوسها بحدود ٣،٥ مليون نسمة ، ولم يكن لهذه المدينة تخطيط حضري متكامل. وكانت شركة (بول سيرفس) الاستشارية البولونية قد باشرت منذ فترة تعمل لوضع الجوانب التكميلية لذلك التخطيط. كانت الأمانة تقوم بتبليط الشوارع ونصب شبكات مياه الأمطار في الأحياء القديمة ، وبعض الأحياء في التوسعات الجديدة. أما الأبنية فكانت مجرد بسيطة مثل دور الأرامل وبعض الأسواق الشعبية ودورات المياه في مركز المدينة. وكانت أصعب المشاكل التي تواجهها هي مشاكل الأراضي وإفرازها للأحياء السكنية الجديدة. 
يقول هشام المدفعي: توجد في بغداد الكثير من الأبنية التراثية والأسواق القديمة ، ولكن لا توجد حلول مناسبة للحفاظ عليها أو تطويرها. كما لا توجد خبرات كافية في هذا المجال. وقد خسرنا عددا كبيرا من تلك الأبنية التراثية لعدم معرفتنا التوازن بين الحفاظ على التراث وضمان المصالح الشخصية. وكنا ننتظر إكمال أعمال تخطيط بغداد لعلها تجد الحلول السحرية لمشاكل الأمانة الجسيمة. 

غرق بغداد ١٩٦٧
في منتصف شهر مايس ١٩٦٨ هطلت أمكار غزيرة لساعات طويلة في بغداد. ولم تكن العاصمة مهيئة لهذه الأمطار الهائلة ، فضلاً عن عدم وجود أي شبكة تصريف في الكثير من أحيائها. دعا أمين العاصمة جميع العاملين في الدوائر الخدمية من موظفي الدولة وأصحاب الأعمال الخدمية الأهلية كالخبازين والنجارين والحدادين وغيرهم. 
غمرت المياه جميع الأحياء السكنية الواقعة شرق القناة في الجانب الشرقي من بغداد ، واضطر الأهالي إلى الصعود إلى الطابق الثاني من منازلهم. أما جانب الكرخ فقد غمرت المياه معظم المناطق والأحياء الواقعة غرب شارع ١٤ رمضان وشارع الخارجية الموازي له في منطقة الداوودي (شارع التانكي). 
أمر هشام بفتح ثغرات في شارع قناة الجيش الذي كان حاجزاً بين المياه والقناة. تم فتح ثغرات بعرض مترين على مسافة كيلومتر بين ثغرة وأخرى لتفريغ المياه إلى القناة وتصريفها. وقد بقيت هذه الثغرات تفرغ المياه لمدة شهر تقريباً. هذا التجربة القاسية جعل أمانة العاصمة تفكر بتوفير شبكة لتصريف مياه الأمطار وشبكة لمياه الصرف الصحي. 

مشروع سكة حديد بغداد بصرة الكهربائي
في عام ١٩٧٣ بعد ارتفاع أسعار النفط وزيادة عائداته على العراق ، قررت وزارة النقل استبدال خطوط السكك الحديد بين المدن العراقية ، وإضافة خطوط جديدة بمواصفات حديثة لتبلغ سرعة القطار (٢٠٠) كم /ساعة . 
قدم هشام وقحطان المدفعي بالاتفاق مع شركة هندرسون هيوز وبزبي Henderson Hughes & Busby البريطانية عن الأْعمال الاستشارية . كان المشروع يتألف من خطين هما بغداد الكوت العمارة البصرة ، وخط الكوت الناصرية البصرة. وأن تكون الخطوط مزدوجة تسمح بالذهاب والإياب في الوقت نفسه ، مع بناء المحطات والأعمال الترابية ، ومد خطوط السكك وتزويدها بالكهرباء اللازمة لتشغيل القطارات. 
تم قبول العرض وتوقيع العقد مع المؤسسة العامة للسكك الحديد ، والاتفاق على تصاميم المحطات والجسور والقناطر على جميع مسارات الخطوط فوق نهري دجلة والفرات. كان المشروع يضم سبعة جسور على النهرين ، و (٨٠) مجسّراً على تقاطع السكة مع الطرق والانهار الصغيرة والعبّارات. كان الهدف هو نقل المسافرين والبضائع. 
قام فريق العمل العراقي البريطاني خلال شهرين بمسح جميع المناطق التي سيمر بها القطار وأغلبها مناطق صحراوية قاحلة وطرق غير معبدة. وفي أحد الاجتماعات مع ممثلي الوزارات طلب ممثل وزارة الدفاع أن يكون مسار خط الكوت العمارة غرب نهر دجلة وليس في شرقه. ويبدو أنه فكر بالجانب العسكري في حال حدوث حرب مع إيران؟؟ وهذا التغيير يعني مد سكة حديد مسافة (٢٠٠) كم يخترق مناطق الأهوار المائية والتربة الرخوة. 
بعد إكمال ٥٠٪ من متطلبات العمل وتصاميم المحطات وتفاصيل الأبنية المكملة لها والتصاميم الأولية للجسور ، حضر في ١٩ تشرين الثاني ١٩٧٩ ضباط الأمن إلى مكتب (دار العمارة) للأخوين هشام وقحطان المدفعي الواقع في شارع المغرب. كان الضباط يحملون توجيهات من صدام بغلق المكتب لمدة سنتين ، وقاموا باعتقال هشام بلا سبب ولمدة ستة أشهر في مديرية الأمن العامة ، وكان قحطان في لندن يعرض تصاميم المحطات وجذورها التراثية. كما تم إيقاف (٢٥) مهندساً وإدارياً عن العمل ، ولم يهتم أحد باحتجاج الأخوين. تعرض هشام إلى ظروف سيئة ومعاملة همجية من أزلام الأمن العامة. فقد جرى احتجازه مع موقوفين آخرين ، وعند النوم تلامس رأسه أقدام المعتقلين الأخرى. وهناك شاهد هشام الكثير من كبار موظفي الدولة والمهندسين وأقارب مطلوبين للسلطة. وكان من صلاحيات أعضاء قيادة حزب البعث ووكلاء الوزارات حجز العاملين أو المتعاملين أو المتعاقدين معهم لسبب تأخر العمل. 
الغريب أن بعض ضباط الأمن كان يطلب من هشام استشارات هندسية لأعمال خاصة بهم مثل دورهم أو دوائرهم وحتى مزارعهم. هذا الأمر ساعد في التخفيف عنه ونقله إلى زنزانة تضم سجيناً واحداً فقط. 
وقام خلال فترة اعتقاله بتقديم تصميم لبرج اتصالات يشيد داخل مديرية الأمن بارتفاع (٨٠) متراً. 
هذا الاستغلال لعقلية سجين استمر ستة أشهر ، تم إطلاق سراحه ، وأرسل له فاضل البراك مبلغ ألف دينار كمكافأة على أعماله في المعتقل. رفض المكافأة لكنهم هددوه بأن رفضها أمر غير مقبول في الدائرة. 
توقف مشروع سكة حديد بغداد البصرة الكهربائي ، وغُلق المكتب ، وخسر العقد الموقع مع الشركاء الانكليز والعراقيين ، وضاعت حقوقهم ، وتحمل الأضرار المترتبة على عدم إنجاز العمل. بذلك وبقرار أهوج خسر العراق فرصة كبيرة لتطوير واقع السكك الحديد وإدخال تكنولوجيا القطارات الكهربائية وبناء محطات حديثة وجسور جديدة ، ودخلنا الحرب مع إيران بعد أقل من عام. 

تطوير مدينة بغداد 
في صيف ١٩٨٠ أفرجت السلطات البعثية عن المهندس المعماري رفعت الجادرجي بعد تقديمه للمحاكمة والحكم عليه بالسجن المؤبد الذي قضى منه عشرين شهراً. قام هشام بزيارة صديقه رفعت الذي أخبره بأنه قد يُكلف من قبل أمين العاصمة للمساهمة في حملة تطوير بغداد استعداداً لمؤتمر قمة دول عدم الانحياز المقرر عقدها عام ١٩٨٢. بعد أسبوعين تم استدعاء هشام المدفعي من قبل أمين العاصمة ، وطلب منه المشاركة في أعمال تطوير بغداد ومنها شارع حيفا وشارع الخلفاء (الجمهورية) وجزيرة بغداد السياحية وحي سكني في السيدية. 

في أيلول ١٩٨٠ عقدت أمانة بغداد ندوة دراسية حول الحفاظ على تراث بغداد وتطويرها. وقد ركزت الندوة على ثلاثة محاور: ١-أهمية دراسة الأبنية التراثية وتحديد مواقعها في بغداد ٢- أساليب صيانة الأبنية التراثية ٣- إبراز الوجه التراثي لمدينة بغداد. 
قدم العلامة حسين علي محفظ محاضرة عن الأسماء العربية في الأبنية التراثية معتمداً على الأسماء التي استعملت في البناء عندما شيد الرسول (ص) أول مسجد في المدينة المنورة. 

في اليوم نفسه قام العراق بغزو إيران ، وعبرت القوات العراقية الحدود ودخلت بعض المدن الإيرانية القريبة. أعلن العراق أنه بدأ قادسية صدام ، واشتعلت الجبهات بالقصف. 

رغم تجربته السيئة مع أمانة العاصمة لكن هشام المدفعي قبل بالعودة إليها بعد أن وعده أمين العاصمة بمنصب رفيع. فقد تم تعيينه معاوناً لأمين العاصمة ، وهو منصب يمنحه الكثير من الصلاحيات والحرية في العمل. استغرق هشام بمشاريع الأمانة والاشراف الفعلي عليها بالتعاون مع رفعت الجادرجي ، مثل نصب الجندي المجهول وعمارة الرصافي ومشروع السيدية الذي تولته شركة ميكرز الهندية ، وكراجات نقل الركاب في الباب الشرقي ومشروع الأسواق المركزية الذي نفذته شركة هيونداي الكوري. 
 إضافة إلى متابعة المشاريع التي توقفت بسبب الحرب العراقية الإيرانية مثل مشروع جزيرة بغداد السياحية المحال إلى شركة YIT الفنلندية التي تضمن أنشاء بحيرة وبرج عال للماء. وتوقف أعمال مشروع شارع حيفا بعد هروب العمال والمهندسين بسبب الغارات الجوية على بغداد. اتصل هشام بالشركة الهولندية وطمأنه على الوضع ، واتفقا على عودة المباشرة بالعمل. وأما شركة دورش Dorsch البريطانية التي كانت تشيد كراجات لأمانة العاصمة فقد فر مهندسوها تاركين بغداد عند بدء الغارات على الحدود العراقية الأردنية ، لكن مسؤولي الجوازات في الحدود لم يوافقوا على مغادرتهم رغم حصولهم على سمة المغادرة ، فعادوا إلى العمل ثانية حتى أنجزوه بعد أربعة أشهر. 

مشروع شارع حيفا 
يعد مشروع تطوير شارع حيفا من أكبر المشاريع الاستراتيجية التي أشرف عليها هشام المدفعي. بدأت الخطوات الأولى في عملية استملاك وهدم الدور والبنايات المستملكة داخل منطقة الجعيفر وأزقتها المجاورة لمنطقة ساحة جمال عبد الناصر حتى شارع الإذاعة والتلفزيون في الصالحية. وقامت الأمانة ببيع أنقاض الدور من شبابيك وأعمدة خشبية وأفاريز ومحجرات ، التي كانت تشكل مواد تراثية جميلة يرغب الكثيرون باقتنائها وتجديدها واستخدامها في الأبنية الحديثة كعناصر تراثية، فضلاً عن الطابوق الذي يعود بعضه إلى القرن التاسع عشر. 
شمل تطوير الشارع تبديل البنى التحتية القديمة المتهالكة بأخرى جديدة عصرية. وتم بناء محطة تصفية الماء الكرخ (مشروع ماء الطارمية) بكلفة (٢٥٠) مليون دينار، ومد شبكة أنابيب (دكتايل) ، واستبدال الأنابيب الآهين القديمة إلى (دكتايل) بكلفة (٣٨٠) مليون دينار. 
أما مصلحة مجاري بغداد فق أعدت خطة لإنشاء محطات تصفية مياه الصرف الصحي في الكرخ والرصافة. كما كانت لمصلحة كهرباء بغداد ومصلحة الهاتف أعمال مماثلة لتبديل شبكاتها في جميع أحياء بغداد. وكذلك إعادة تبليط الشوارع والطرق ، وفتح عدد من الطرق السريعة في جانبي الكرخ والرصافة. 
تم تهيئة الخرائط المعمارية عن طريق الاستشاريين العالميين ، وتم الإعلان عن دعوات لمقاولين عالميين لتنفيذ المشاريع. وأحيلت كلها عام ١٩٨١ لتنفيذها عدا مشروع حيفا /٨ . 
تم تقسيم تطوير شارع حيفا إلى ثمانية مشاريع كبري وهي: 
حيفا / ١ بنايتان رئيستان أحيل إلى شركة هان يانغ 
حيفا / ٢ عدد من الأبنية أحيل إلى شركة بلجيكية 
حيفا / ٣ عدد من الأبنية أحيل إلى شركة هايلت ورنر الألمانية
حيفا / ٤ عدد من الأبنية أحيل إلى شركة بلجيكية 
حيفا / ٥ بنايتان رئيستان أحيل إلى شركة هيونداي الكورية 
حيفا / ٦ عدد من العمارات أحيل إلى شركة هيونداي الكورية 
حيفا / ٧ أحيل إلى شركة هايل تورنر الألمانية 
حيفا / ٨ وهو مجمع ذو ٩ عمارات سكنية ذات ١٥ طابقاً ، وأحيل إلى شركة هولندية. 

مشروع نصب الجندي المجهول
ضمن التحضيرات لقمة عدم الانحياز لعام ١٩٨٢ والتي لم تنعقد بسبب تفجير سيارة مفخخة في بغداد ، تم بناء أربعة فنادق في ساحة الفردوس (شيراتون والميريديان) وكرادة مريم (فندق الرشيد) والصالحية (المنصور ميليا) ومعالم أخرى منها نصب الجندي المجهول (في الكرخ) ونصب الشهيد (في الرصافة). 

قام الفنان خالد الرحال بعمل النصب. وأما الأعمال المعمارية والاستشارية فقد عهدت إلى الاستشاري العالمي دي أوليفيو والإنشائي العالمي كاليوزي (ميلانو إيطاليا). وتولت الشركة العامة للمقاولات الانشائية أعمال المقاولة، وبلغت كلفته (١٢) مليون دينار. 

يصور النصب درعاً يسقط من قبضة محارب في ساحة المعركة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وتحت الدرع قبر افتراضي للجندي المجهول، وبجانبه سارية أعلام ترمز إلى ألوان العلم العراقي ، كتب عليها بيت الشعر العربي المشهور:
بيض صنائعنا سود وقائعنا *** خضر مرابعنا حمر مواضينا

يقع تحت ويحيط بهذه المنصة الكبيرة من جميع جوانبها ، فضاءات واسعة لمتحف كبير يضم معالم تاريخ الجيش العراقي والجيوش العربية والإسلامية من ملابس وأسلحة ومعدات عسكرية. وتتخلل سقف المتحف أشعة منبعثة من مركز النصب وتنحدر نحو الأسفل ، تنار الفضاءات ليلا ونهاراً. 

يقول هشام المدفعي: قبل افتتاح نصب الجندي المجهول الجديد ، كُلّفت بتهديم النصب القديم وإزالته لعدم قبول فكرة وجود نصبين للجندي المجهول. فعهدت إلى شركة (انر كوبرجكت) اليوغسلافية بهذه المهمة. وقد طلب مني صديقي رفعت الجادرجي الذي صمم النصب بعد ثورة تموز ١٩٥٨ ، أن أحتفظ له ببلاطة من بلاط المرمر للنصب القديم كذكرى لأحد أعماله. وهذه البلاطة محفوظة عندي إلى يومنا هذا ، لعدم عودة رفعت إلى العراق لتسلمها. يذكر أن الجادرجي قد توفي عام ٢٠٢٠ في لندن. 

أما قبر الجندي المجهول الذي صممه خالد الرحال فهو عبارة عن مكعب بطول ضلع يبلغ ٢،٥ متر. وهو مصنوع من الحديد غير قابل للصدأ (Stainless Steel). المكعب مصنوع من صفائح متماثلة الصنع بطبقات سبع متموجة، عرض الواحدة ٣٠ سم ، تحيط بالقبر ومتداخلة أحياناً ، لتصبح بلونها اللماع وظلالها ووهج انعكاس الانارة المحيطة ، منظراً مهيباً يدعو إلى توقف الزوار للتمعن بهذا الجزء المتميز وتأمله. 
فوق القبر ويظلله درع عربية دائرية على شكل صحن مقعر، موضوعة بزاوية ( ٤٥ درجة ). يتكون الدرع من هيكل حديدي هائل بقطر (٥٠ متراً) ، يرتكز من زارية واحدة ، ويظلل القبر عن الغروب. هذا الدرع الحديدي يرتكز على ألواح ويربط بالأساس بثمانية براغي ، طول الواحد ثلاثة أمتار وبقطر (٢٠ سم) . والدرع مغلف بألواح نحاسية من الخارج ، وألواح ألمنيوم من الداخل. 

في أحد أيام تموز ١٩٨١ تم في احتفال مهيب جلب جثمان جندي مجهول من ساحات الحرب العراقية الإيرانية ووضع في القبر بحضور هشام المدفعي وخالد الرحال وعدد كبير من المسؤولين، وضمن مشاهده التمثيلية قام صدام بالتظاهر بذرف الدموع والحرب ما زالت في السنة الأولى. 

كان خالد الرحال مقتنعاً بفكرة حصوله على منصب مدير عام في أمانة العاصمة ، لكنه استشاط غضباً أن رئاسة الجمهورية قد خصصت جائزة مقدارها (٥٠ ألف) دينار للفنان إسماعيل فتاح الترك. وكان يتحدث في المجالس حتى وصل الأمر إلى صدام، فقام رئيس ديوان الرئاسة باستدعائه وأعطاه المبلغ نفسه . اقترح هشام على الرحال أن يكرم العاملين معه بهذه المناسبة. وفي أحد المرات استدعى صدام الفنان الرحال إلى النصب ليشرح لمرافقه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح فكرة المشروع. وفي ختام اللقاء سأال صدام الرحال: هل لديك رغبة معينة لم تستطع تحقيقها لحد الآن؟ فأجاب الرحال: أريد أن أدفن بعد موتي في إحدى ساحات نصب الجندي المجهول. وبالفعل أصدر صدام أمراً جاء فيه: تنسّب أن يُدفن الفنان خالد الرحال بعد وفاته في مشروع نصب الجندي المجهول. توفي الرحال عام ١٩٨٧ وتم دفنه بجانب الجندي المجهول. 

وقام خالد الرحال بتصميم قوس النصر الذي هو عبارة عن سيفين متقاطعين تمثل السيوف العربية الأصيلة. وتم أخذ نموذج قبضة صدام من الجبس لتكون هي القبضة التي تمسك بالسيف بعد تكبير حجمها وصنعها من البرونز. وبعد وفاة الرحال قام الفنان محمد غني حكمت بإكمال العمل لكنه اعترض على طريقة القبض على السيف مع صدام في يوم افتتاح النصب. ومنذ ذلك التاريخ تم إبعاد حكمت عن أية أعمال فنية مهمة. توفي محمد غني حكمت عام ٢٠١١ . وقد أنجز قبل وفاته تصميم نصب (إنقاذ الثقافة العراقية) وتم إنشاؤه عام ٢٠١٣ في ركن متنزه الزوراء المقابل لمعرض بغداد الدولي. كما صمم (نصب بغداد) وهو عبارة عن عمود طويل كتبت عليه قصيدة مصطفى جمال الدين ( بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر..) تجلس عليه امرأة بالزي العباسي. وقد تم إنجازه عام ٢٠١٣ ووضع في ساحة الاندلس. كما قام بتصميم (نصب أشعار بغداد) وهو عبارة عن نافورة ذات شكل بيضوي مكونة من كلمات وحروف عربية ، تم إنجازه عام ٢٠١٣ ويقع في الكرخ مقابل مقهى البيروتي. كما أنجز تمثال الفانوس السحري أمام المسرح الوطني في الكرادة عام ٢٠١١ . 

نصب الشهيد 
تم اقتراح تشييد (نصب شهداء قادسية صدام) والذي عُرف فيما بعد بنصب الشهيد الذي قام الفنان إسماعيل فتاح الترك بتصميمه. وتم اختيار شركة متسوبيشي اليابانية لتنفيذه. كما تم التعاقد مع الاستشاريين البلجيكيين (M+R) وهي مؤسسة استشارية بلجيكية لا تعمل من أجل الربح. كما تعاقدت أمانة العاصمة مع شركة (Ove Arup) الاستشارية البريطانية العملاقة للمساعدة في تدقيق الخرائط الانشائية والخدمات والمعمارية. ضمت الجانب الاستشاري العراقي كل من هشام المدفعي وإسماعيل فتاح الترك والمعماريين وجدان ماهر وسامان كمال وسعد الزبيدي. استغرق المشروع سنتين لتنفيذه. 
كانت أسس المتحف في السرداب والقبة الشاهقة المتكونة من نصفين ، متكونة من الكونكريت المسلح بسمك يقارب (٣،٥ متر) وتتدرج لتصبح (١،٥ متر) في المناطق الأخرى. 
-بلغت مساحة المشروع (٤٠ ألف) متر مربع ، والمباني (٥٥ ألف) متر مربع ، والبحيرات (٨٩ ألف) متر مربع. 
-ارتفاع القمة (٤٠ متر) ، ووزنها مع التغليف (٢١٣٠) طناً ، ووزن الهيكل المغلون (١٥٠٠) طن ، ومساحتها السطحية (١٠ آلاف) متر مربع ، وعدد ألواح التغليف (٢٢٤٦٠) قطعة ، وعدد بلاطات السيراميك (٧٨٤ ألف ) قطعة. 
-المساحة السطحية تقرب من (٢٧ ألف) متر مربع ، ووزن الراية (٥ طن) ، وارتفاعها (٨ متر). 
- كمية الخرسانة المستخدمة في المشروع نحو (١٠٠ ألف) متر مربع. 
- تم زرع حدائق المشروع بنخيل مستورد من منطقة المحمرة (خرمشهر) الإيرانية. 

استلزم المشروع إجراء تجارب مختبرية في نفق هواء على نصفي القبة وتأثرهما بسرعة الرياح في بغداد، ودراسة انعاكاسات الضوء على القباب ، وبالأخص انعكاس الضوء من السطوح المقعرة في حالة استعمال ألواح الذهب في التغليف الذي تم اقتراحه من قبل المعماريين في البداية. تم الاتفاق على استبدال التغليف بالذهب إلى التغليف بالقاشاني الكربلائي المصنوع في اليابان. وتم إيفاد إسماعيل الترك إلى طوكيو لختيار اللون الشذري (التركوازي) المطلوب. وكانت مساحة أواح التغليف تبلغ (١٠٠ * ٧٠ سم) على الهيكل الحديدي للقباب. 
كان مقرراً كتابة أسماء الشهداء على الجدار الخارجي حول المتحف والذي يبلغ محيطه (٣٥٠ متراً) وارتفاعه (٣،٥ متراً). وتم الاحتفال بوضع آخر بلاطة للقبة الأولى وعلى الثانية أيضاً. وتم كتابة أسماء مدراء المشروع والمهندسين والاستشاريين والمقاولين على ظهر اللوح الأخير. وجلب المقاول الياباني براميل من النبيذ الياباني المصنوعة من الخشب ، وهو تقليد ياباني أن يقوم ضيوف الشرف بضرب منطقة معينة من البرميل بمطرقة خشبية كبيرة ، فتفتح فوهة البرميل لوضع حنفية يؤخذ عن طريقها المشروب. 

 


مشاهدات 239
الكاتب صلاح عبد الرزاق
أضيف 2024/03/08 - 11:39 PM
آخر تحديث 2024/04/27 - 8:25 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 321 الشهر 10960 الكلي 9136867
الوقت الآن
الأحد 2024/4/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير