الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هشام المدفعي .. سردية الإعمار والهندسة الإستشارية    2-2

بواسطة azzaman

شخصيات عرفتها 
هشام المدفعي .. سردية الإعمار والهندسة الإستشارية    2-2
صلاح عبد الرزاق


المدفعي في جهاز المخابرات
في مايس ١٩٨٦ اعتقل أمين العاصمة عبد الوهاب المفتي بتهم تلقي رشاوى من الشركات والمقاولين العاملين في مشاريع الأمانة. كما تم اعتقال مسؤولين آخرين بنفس التهمة. في ١٦ تموز ١٩٨٦ جاءت مجموعة من رجال الأمن إلى دار هشام المدفعي واقتادوه وعصبوا عينيه ووضعوا في السيارة. دخل دائرة المخابرات وأرغموه على الوقوف على رجل واحدة ورفع الأيدي إلى الأعلى. لم يعرف هشام سبب اعتقاله والتهمة الموجهة له. اقتادوه للتحقيق وسألوه عن علاقته بموفق العلاف الذي كان معتقلاً أيضاً. تعرض هشام للضرب المبرح على رأسه وظهره بالعصي طالبين منه الاعتراف. استرت تلك الحالة ثلاثة أشهر من التعذيب والاهانة والصفع المفاجئ وحرب الأعصاب. أثناء التحقيق سألوه عن جميع العاملين معه ومنهم عبد الوهاب المفتي ورفعت الجادرجي ومعاذ الالوسي وبقية المهندسين. وكانت الأجهزة الأمنية لا تتردد في اختلاق قصص قبض رشاوي والتجسس للأجانب كما فعلوا بأمين العاصمة مدحت الحاج سري الذي ظهر في تلفزيون بغداد ليعترف بالتجسس والعمالة لدولة أخرى. 

كان هشام يقول أنه يستلم راتبا مقداره ألف دينار شهرياً للسنوات ١٩٨٠- ١٩٨٦ وهو مبلغ غير قليل آنذاك يساوي (٣٢٥٠ دولاراً) ، إضافة إلى أرباحه من مكتبه الاستشاري ، وأن أولاده يمارسون أعمالهم. 

تم نقل جميع المعتقلين إلى سجن أبي غريب ووزعوا علي قاعاته الكبيرة وزنزاناته الصغيرة. بعد شهرين وفي ٢٧ كانون الأول ١٩٨٦ تم نقلهم إلى محكمة الثورة . وبعد السؤال عن الاسم والعمل سأله القاضي: هل أنت مذنب أم بريء ، فقال هشام: بريء. ثم تحدث المحامي الذي وكلته عائلتي مبيناً طبيعة عملي واندفاعي المخلص ، وأنه ليس موظفاً في الدولة ، بل يمارس عمله بعقد سنوي مؤقت. وعليه فلا تطبق عليه المواد القانونية الخاصة بموظفي الدولة. لم تستغرق الجلسة سوى ربع ساعة. وبعد انتظار ساعة خارج القاعة دخلوا مرة أخرى. بدأ القاضي بقراءة الحكم فقال: الحكم على المهندس هشام المدفعي بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعلى موفق العلاف بالسجن لمدة عشر سنوات. تم اقتياد هشام إلى سجن أبو غريب وأدخل في غرفة تضم عشرين شخصاً محكومين بالإعدام وكلهم من الشباب الكرد من جماعة جلال الطالباني. 
في زنزانات أخرى كان هناك سجناء من حزب الدعوة الإسلامية ، وكان اثنان منهم يتناوبان قراءة القرآن طوال الليل مما يخفف من الآلام النفسية وتهدئ الأرواح كثيراً. كان أعضاء حزب الدعوة يذكرون دائماً بأن قوافل  الشهداء لا تنتهي أبداً. 
بعد أسبوع اقتادوه بإيحاء أنه متوجه إلى تنفيذ حكم الإعدام وكان معصوب العينين ، ثم فجأة صاح أحدهم: تهانينا أبو كميت ، أهنئك لأن حكم الإعدام قد خُفّض. عاد إلى حاكمية المخابرات فوجد شقيقته تنتظره وكانت تعلم بخبر تغيير الحكم. بعد ذلك نقل إلى سجن الأحكام الخاصة في كانون الأول ١٩٨٦ حيث دخل زنزانة تضم ( ٤٠ ) من المحكومين. وكان في السجن مجموعة من الاخوان المسلمين عددهم حوالي (٥٠) سجيناً. 
كان لهشام اخ ضابط وهو متخصص بالتصاميم الداخلية ووضع تصامين لنادي الصيد. وكان أعضاء قيادة حزب البعث بعد عام ١٩٦٨ يترددون على النادي ومنهم صدام فتعرف على عصام. قام عصام بتسهيل زيارة غادة ابنة هشام إلى صدام ، فالتقته فقتال لها: لا أتدخل أثناء التحقيق ولكن سأتدخل عند إحالته إلى القضاء. في يوم ٢٧ تشرين الثاني ١٩٨٨ أبلغ مأمور السجن هشام بصدور عفو خاص عنه ، فخرج مسرعاً وغادر السجن الذي قضى فيه (٣٠) شهراً. 

 هشام يعود لخدمة صدام
رغم تجربته المريرة في العمل الحكومي وتعرضه مرتين للاعتقال والسجن بلا سبب في سجون صدام لكن هشام المدفعي لم يتعلم الدرس. ففي كانون الأول ١٩٨٩ بعد أيام من إطلاق سراحه جاءه شقيقه الضابط عصام المدفعي وعرض عليه طلب صدام لبناء قصر جديد ليكون دار ضيافة يستوعب إقامة أربعة رؤساء هم رؤساء مجلس التعاون العربي ، مصر والأردن واليمن والعراق. وكان عليه مغادرة العراق بدل أن يخضع مرة ثالثة لمزاج النظام وأزلامه ، لكنه سرعان ما نسي معاناته في السجن مبرراً قبوله بأن القيام بعمل هندسي كبير يعيد له اعتباره ولمكتبه الاستشاري الذي أغلقه صدام منذ عام ١٩٧٩. كما أن المردود المالي سيفي بمتطلبات معيشته وعائلته. 
ضم فريق العمل كل من هشام وابنته غادة وقحطان وابنته لينيا اللذين عادا من أثينا حيث يقيم مع زوجته اليونانية. قام الفريق بزيارة الدائرة الهندسية في الرئاسة ، والتقوا برئيس الدائرة حسام خضوري ، والمهندس معن سرسم الذي أصبح وزيراً للاسكان فيما بعد. تم تقديم تصاميم أولية والاتفاق على تسديد الأجور في العراق وخارجه. وافق صدام على المشروع الذي أطلق عليه مشروع (٣٠٠). وفي آذار ١٩٩٠ تم توقيع العقد الاستشاري ، وتم اختيار موقع المشروع فوق تل اصطناعي شيد حديثاً قبل خمس سنوات.  
تفرغ المعماري قحطان المدفعي لوضع كراس يضم التصاميم والأفكار وتخطيطات للأعمال الفنية في الممرات والقاعات مستوحاة من التراث الفني ولوحات لقادة الفكر والأدب والعلم في التاريخ العربي الإسلامي بملابسهم وحركاتهم ، إضافة إلى تزيين السقوف بما يرمز إلى الحضارات العراقية القديمة. 
ذهب قحطان وهشام وابنته غادة لمقابلة صدام في مكتبه في المجلس الوطني ، وعرضوا عليه الكراس والأفكار التي تضمنها التصميم. وبعد انتهاء المقابلة ، قام سكرتير المجلس بتقديم ساعات ذهبية ثمينة خُتم عليها شعار الجمهورية العراقية. 
بعد شهرين من العمل على التصاميم قام صدام بغزو الكويت في ٢ آب ١٩٩٠ وبدأ العراق يدخل حرباً غير محسوبة بل مغامرة متهورة. وبدأ قصف الحلفاء يصل العاصمة بغداد، فغادرها هشام وابنته متوجهين إلى السليمانية ثم عاد منها. دخل العراق في معاناة قرارات الحصار الاقتصادي والدبلوماسي والتجاري والمالي. توقف العمل في المشروع خاصة بعد انخفاض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار. 
وجاءت انتفاضة شعبان ١٩٩١ لتسقط النظام في أغلب محافظات العراق ، وسيطر الثوار على دوائر المحافظات ، لكن النظام وبضوء أمريكي أخضر قام بسحق الانتفاضة بكل عنف وقسوة ووحشية. وبعد أسبوعين عادت سيطرة النظام على الأمور وتم قتل مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء في مقابر جماعية واستخدام صواريخ ثقيلة لدك المناطق السكنية في المحافظات الجنوبية والوسطى.  

خلال فترة الحصار انشغل هشام المدفعي بزيارة الآثار في المواقع المختلفة في أنحاء العراق. وقضاء أوقاته مع عائلته في بيته ومزرعته في منطقة سبع ابكار بالأعظمية ، ودعوة الأقارب والأصدقاء إليها. 

في ٩ نيسان ٢٠٠٣ سقط نظام صدام وانهارت بنيته الأمنية والحزبية التي روعت العراقيين طوال ٣٥ عاماً من القمع والقتل والتهجير والتعذيب والاعدامات المنظمة. وكان سقوط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس المنظر الأكثر شهرة في الذاكرة العراقية في التاريخ الحديث. 
كان هشام المدفعي في لندن عند سقوط نظام صدام ، وبدأ بالاتصالات مع شخصيات عراقية مثل عدنان الباججي وبريطانية مثل البارونة إيما نيكلسون. في حزيران ٢٠٠٣ عاد المدفعي إلى بغداد وبدأ بالتواصل مع الشخصيات السياسية وكيفية إعادة إعمار ما تضرر من الأبنية الحكومية والتراثية. 

يعيش الآن هشام المدفعي في منزله في شارع الأميرات ببغداد، ويتردد على عمان ولندن للعلاج فقد بلغ العقد الثامن من عمره ، ويتواصل مع الأهل والأصدقاء والإعلاميين والمنظمات العراقية والأجنبية. 

لقاءاتي مع هشام المدفعي
يعود أول لقاء لي بالمهندس هشام المدفعي في ٢٥ مايس ٢٠١٣ عندما زارني في منزلي بصحبة المرحوم الدكتور سالم الالوسي الذي قدم لي كتابه الجديد (أسماء العراق وبغداد ، الأصل والمعنى في العصور القديمة). وهو كتاب تاريخي ولغوي تضمن مراجع كثيرة من الأدب العربي وكتب البلدان ومؤلفات المؤرخين والباحثين العراقيين والأجانب والمستشرقين أمثال الإنكليزي ليسترنج والألماني هرتسفيلد إضافة إلى محمود شكري الآلوسي ورزوق عيسى وأنستاس ماري الكرملي وآخرين وعليه إهداؤه بخط يده. كما جلب معه صوراً قديمة لطاق كسرى والقشلة ومبنى المتصرفية القديمة المهدمة حالياً ، ولم يبق منها سوى الجدران العالية. 

أما اللقاء الثاني فكان في مراسم تشييع المؤرخ سالم الألوسي في ١٦ كانون الأول ٢٠١٤ حيث اجتمعنا أولاً في دار المرحوم وتحدثنا عن صفاته وسجاياه مع جمع من الشخصيات العراقية المهتمة بالتراث والتاريخ. ثم توجهنا إلى مقبرة الكرخ القديمة قرب مراقد الشيخ جنيد البغدادي وبهلول . وتحدثنا معاً ثم صلينا صلاة الميت ، وتوجهنا لحضور مراسم الدفن. 

أما اللقاء الثالث فقد حصل في ٢٨ كانون الأول ٢٠٢٣ عندما زرته في منزله بالمنصور ، بترتيب من صديقه الباحث رفعت عبد الرزاق. وكان قبل اللقاء بأسابيع قد أرسل لي كتابه (نحو عراق جديد.. سبعون عاماً من البناء والاعمار) الصادر عام ٢٠١٧ ، وكتب في الإهداء بخطه (يقدم الكتاب هدية إلى الأستاذ الفاضل الدكتور صلاح عبد الرزاق ، مع آيات الود والاحترام والتقدير. هشام المدفعي). 

دخلت عليه في صالون منزله حيث كان يجلس على كرسي في وسط الصالة ، وأمامه منضدة دائرية مرتفعة ، عليها هاتفه وريموت كنترول للتلفزيون وقنينة ماء وفنجان شاي. رحب بي كثيراً وبحضوري لزيارته. وبعد الكلام والاستقبال قدمت له كتاب (العمارة الأجنبية في العراق ، مائة عام من الانجازات الهندسية والعمرانية) الصادر عام ٢٠٢٢. 
وأثناء إهداء الكتاب إليه قدمت شرحاً لمضمونه الذي يتمثل في عرض لأبرز المشاريع الهندسية والأبنية العمرانية التي صممها معماريون أجانب ونفذتها شركات أجنبية منذ تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١ وبداية النهضة العمرانية الحديثة في العراق. كما تسليط الضوء على المهندسين والمعماريين وسيرة حياتهم ونبذة عن أعمالهم خارج العراق مع صورهم. وكذلك سيرة للشركات المنفذة وأهم أعمالها في بلدانها أو في دول العالم مع صور المؤسسين ومكاتب الشركة وصور أعمالها العالمية. ولعل أهم الأبنية هي جامعة بغداد ، فنادق بغداد ، المحطة العالمية ، مطارات العراق ، المتحف العراقي الوطني ، القصور الملكية (الزهور ، الرحاب ، البلاط الملكي ، الدغارة ، الكوفة وسرسنك) ، المقبرة الملكية، جامعة آل البيت ، جسور بغداد ، بنوك ومصارف بغداد ، مديرية الموانئ في البصرة ، ملعب الشعب الدولي ، نادي العلوية ، مدينة الطب ، قصر المؤتمرات ، وزارة التخطيط ، سدة الكوت ، سد دوكان ، سد دربنديخان ، سد الموصل ، سد الثرثار ، سد بخمة المعطل ، مدين الفيصلية (الثورة) ، بغداد الجديدة ، شارع حيفا ، شارع أبو نؤاس ، شارع الخلفاء ، مجمع الصالحية السكني ، جسر البصرة المعلق ، مدينة بسماية ، قريتا الشمس والقمر السكنية). وشرحت له أن فكرة الكتاب بدأت بعد قيامي بنشر مقالات عن تاريخ العمارة الأجنبية في الصحف والوكالات ، ثم طلب مني المهتمون بجمعها في كتاب. 
علق هشام: أنا شاكر جداً لهذا الجهد الذي أعتبره متميزاً في هذا الوقت. فهذا الكتاب يعطينا فكرة واسعة عما قدمه الآخرون للعراق. وهذا أمر مهم جداً. هذا الكتاب يصلح مرجعاً لطلاب الهندسة والباحثين في العمارة العراقية. 

واقترح عليّ الكتابة عن الشخصيات العلمية والأدبية العراقية فأجبته: لقد كتبت عن عشرات الشخصيات ومنهم صديقك المرحوم سالم الألوسي وسيكون هو أحدهم. لقد اخترت الشخصيات التي كانت لي علاقة شخصية معهم ولم تشمل شخصيات عراقية شهيرة لهذا السبب. مثلا الدكتور علي الوردي توجد عنه كتابات ودراسات لكنني لم التقه . فالكتابة عن كل الشخصيات المعروفة تحتاج إلى موسوعة ضخمة ليس باستطاعتي ذلك فحصرت الكتابة بمن أعرفهم والتقيت بهم. بعضه رحلوا عن الدنيا ، وآخرون على قيد الحياة. 

كما ذكّرته بزيارته لي مع الآلوسي والحديث التراثي الجميل الذي استغرق قرابة الساعة. وحدثني عن إنشاء جامع بنية في العلاوي الذي صممه شقيقه قحطان المدفعي. 

وتحدث الباحث رفعت عبد الرزاق عن ظروف اعتقال المدفعي بعد حادثة تخسف البلاط في نصب الشهيد الذي كان مقاول عراقي مقرب من الرئاسة قد تولى تنفيذه. حيث تم وضع حقيبة في حديقة منزله ، ثم جاء الأمن بعد ربع ساعة واقتادوه. فعقب هشام ضاحكاً: هاي شجابها ببالك؟  وعندما سألته: كم أمضيت في سجون صدام؟ لم يتذكر. وسألته عن دراسته الابتدائية فأجاب: في المدرسة المأمونية. ثم درست في الإعدادية المركزية. وسألته عن زملائه في الدراسة فقال كانوا عدداً كبيراً ، لكنه لم يتذكر واحداً منهم. 

وحدثته عن مقالاتي الحالية التي تتناول الأبنية التراثية في بغداد فقال: هذا مهم جدا. فأكملت: كتبت عن بيوت شارع حيفا ومنها بيت السويدي ، وبيت الشواف ، وبيت الوتار ، وبيت عبد الرحمن الكيلاني ، وبيت إقبال الدولة في السنك والكاظمية ، وبيت رشيد عالي الكيلاني وبيت أمين المميز وآخرين. ثم كتبت عن المدارس القديمة مثل الإعدادية المركزية والغربية المتوسطة وكلية بغداد والمدرسة الجعفرية. 

(أنا سعيد جداً أن أتحدث معكم بهذه المواضيع. وأشعر بالنقص لأن الشخص يجب أن يتحدث أكثر في سبيل المعرفة). 
أنا: نحن نقدر خدماتك الهندسية الاستشارية والعمل لمدة سبعين عاماً في المشاريع العراقية. إن مذكراتك ترسم خارطة ومسيرة الإنجازات الهندسية في العراق. وهي تمثل مرجعاً لمن يريد الكتابة عن الهندسة والمشاريع العراقية).  
سألته: هل كتبت عنك رسالة جامعية؟ فأجاب رفعت عبد الرزاق: توجد رسالة واحدة عنه. أما عن شقيقه رفعت فقد كتبت عدة دراسات ورسائل جامعية. 

وتحدث هشام عن شقيقه إلهام المدفعي فقال: كانت والدتي تريده أن يدرس الهندسة مثل بقية إخوته هشام وسهام وقحطان، لكنه لم يأخذ بنصيحتها. وتحدث عن شقيقته ميادة فقال: درست في كلية البنات باختصاص أدبي. أما عن زوجته سعاد علي مظلوم فكانت أول فتاة تتخرج مهندسة في العراق. وقد دخلنا سوية إلى الكلية وتخرجنا معاً. وعملت في مديرية الطرق والجسور.
وتحدث عن والده الضابط حسن فهمي المدفعي فقال: كان مدير الشرطة في بغداد، وكان يداوم في مديرية الشرطة المجاورة للقشلة. وأنا أتذكرها جيداً. وأن والدي توفي في الطريق بين بغداد وكركوك وكان راكباً في سيارته فأصيب بسكتة دماغية توفي إثرها في المستشفى عام ١٩٤٦. 

حوار في الحضارات
وحول تطوير المواد الانشائية وخاصة الطابوق الذي استخدمته الحضارات العراقية القديمة قال: يجب أن تكون هناك دراسات علمية وفنية لتطوير المواد الانشائية المتوفرة في البيئة العراقية. والتعرف على كيفية استخدام أجدادنا الأوائل لتلك المواد. ولا يزال الكثير منها غير مكتوب عنه. 
علقت: من مفاخر العمارة البابلية هو الطابوق المزجج المستخدم في بوابة عشتار وشارع المواكب في مدينة بابل. لكن يلاحظ أن هذا النوع من الطابوق غير مستخدم في المعابد والقصور وغيرها ليتحمل تغيرات المناخ. كما أن ما بقي من أبنية الحضارات السومرية والأكدية والبابلية لم تدم طويلاً مثل مدينة أور أو لكش أو الجنائن المعلقة التي لم يبق منها سوى الأسس . لقد تهدمت بفعل الظروف الجوية والكوارث الطبيعية. إن الطين والطابوق من منجزات حضارات وادي الرافدين. لقد شاهدت زقورة عكركوف قرب بغداد. كان الطابوق غير مفخور بل لِبِنْ تم تجفيفه تحت الشمس. وتم خلطه بالتبن لتفادي حدوث الشقوق. وبين كل طبقة وأخرى يوجد طبقة رقيقة من الزفت الأسود. 

أضاف هشام: لا تنس أن تكنولوجيا الماضي كانت تعالج مشاكل تلك العصور. ويجب أن نرى مستوى المعرفة آنذاك. كان الطين متوفراً ، وأسلوب فخر الطين معروف أيضاً. 
قلت: كذلك الزجاج موجود وصناعة المعادن كالحديد والنحاس والبرونز والذهب والفضة معروفة. فكانوا يصنعون الأواني النحاسية والزجاجية والسيوف والخناجر والحلي الذهبية والفضية والمجوهرات والأحجار الكريمة. وهي صناعات ليست بالسهلة آنذاك ، تصور بناء فرن قادر على صهر الحديد والنحاس والذهب والفضة ، أو انتاج سبائك من عدة معادن. 

تناولتُ بعض منجزات الحضارة السومرية فقلت: لعل أهم إنجاز معرفي علمي وثقافي هو الكتابة المسمارية على الألواح الطينية ، ثم تُفخر في أفران لنجد عشرات الآلاف من الألواح الطينية والرقُم والوثائق والأختام الاسطوانية وما كتب على الجدران والمعابد والقصور والتماثيل التي خلدت ميراث تلك الحضارة. 

لقد انتشرت الكتابة المسمارية في العراق حيث استخدمتها الحضارة البابلية والأكدية والآشورية لتدوين علومها ومعارفها وآدابها. وقد وجدت ألواح مسمارية خارج العراق كما في ايران وسوريا. كانوا يستخدمون لغاتهم لكن بحروف مسمارية سومرية. 

وتحدثت عن الفنون الأخرى وتساءلت: من الغريب أن آثار الحضارات العراقية تخلو من وجود مسرح مثلما كان في الحضارات الرومانية واليونانية. والمسرح الوحيد في بابل الأثرية بناه الاسكندر المقدوني عندما فتح بابل عام ٥٤٩ قبل الميلاد. 

هشام: الحياة حلوة ، وتوجد أشياء جميلة يجب ذكرها. وأشاد بأعمار الأبنية التراثية التي قامت بها محافظة بغداد في عهدنا مثل بناية القشلة التي نشر صورها في مذكراته ، وبناية المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي. إن الكتابة عن بغداد صارت من الواجبات الوطنية. من الضروري أن يسجل المرء ما يجول بخاطره ، لكن المشكلة متى يسجله؟ وفي أي عمر؟ فالإنسان يبدأ بالنسيان وتفوته أمور كثيرة. 

جولة في منزل المدفعي
بعد انتهاء اللقاء قمت بجولة سريعة في منزله فشاهدت مكتبته التي تضم عدة خزانات امتلأت بالكتب حتى السقف وكثير منها كتب نادرة وقديمة وكاسيتات ودروع وتحفيات. فيما تناثرت صناديق كتب جديدة وخرائط وكراسي ومناضد في أرجاء المكتبة. وعلى منضدة خشبية قديمة يوجد حاسوب بشاشة كبيرة وطابعة . 
الوصول للمكتبة من خلال باب يصلها بغرف الضيوف ، وهي صالة واسعة تنوعت فيها الكراسي والوسائد ، والطاولات الصغيرة حيث اصطفت مجموعة من المقتنيات . كما يوجد رف داخل الجدار ازدحم بالصور العائلية وصور والده حسن فهمي المدفعي، وأخرى لمناسبات رسمية قديمة وافتتاح مشاريع يقف المدفعي في صدرها. وصور لأصدقاء المدفعي مثل عبد الحميد الرشودي وسالم الآلوسي 
وازدانت الجدران بلوحات لفنانين عراقيين وسجادة لشعار الدولة العراقية في العهد الملكي. وعلى الأرض تناثرت أعمال خزفية ومصنوعات نحاسية قديمة . 


الهوامش 
١- رفعت عبد الرزاق (طريق الحج البري القديم ودور حسن فهمي المدفعي في كشفه) ، ص ٤٦ ، بغداد : ٢٠٢٣
٢- هشام المدفعي (نحو عراق جديد ، سبعون عاماً من البناء والاعمار) ، ص ٥٠ ، مطابع دار الاديب ، عمّان: ٢٠١٧
٣- هشام المدفعي ، مصدر سابق ، ص ٨٠


مشاهدات 376
الكاتب صلاح عبد الرزاق
أضيف 2024/03/08 - 11:43 PM
آخر تحديث 2024/04/28 - 4:03 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 415 الشهر 11054 الكلي 9136961
الوقت الآن
الأحد 2024/4/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير