الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تطواف الغريب (3)

بواسطة azzaman

تطواف الغريب (3)

حسن النواب

 

لما انتهى قداسهم تبخروا من الحديقة خلال دقائق ليكملوا احتفالهم بحانات ومراقص شارع Northbridge وقاعة الكاسينوCasino  حيث صالات القمار ونرد الحظ والنصيب، ليس جميعهم يهرعون إِلى تلك الأمكنة الصاخبة، فبعضهم متمسك وملتزم بتعاليم الكنيسة، يعودون لمنازلهم ويكملون ليلتهم بحفلة بسيطة مع العائلة ويقرأون كتاب الإنجيل، بقيتُ وحدي أتسكع بجوار بحيرة تسبح بمائها الأخضر بطّات بيض، ربّما جئن إِلى أستراليا من أهوار «الجبايش «، استفاق بوجداني حنين جارف للوطن، نسمة رقيقة بعطر بغدادي داعبت خصلات شعري؛ كأن الريح تعاطفت معي وجاءت برائحة البلاد لمهجري البعيد. بدأت الحديقة تنوس بحِندسٍ موحشٍ، كثافة أغصان أشجارها العملاقة حجبت شعاع مصابيح جليدية تنير أركانها، عمر هذه الأشجار الضخمة أكثر من 500 عاما؛ ثمة مشرّد بشعر أبيض طويل جلس على مصطبة بجنبه دراجة هوائية، انشغل مع ببغاء أبيض يقف على رأسه ولما اقتربت منهما حرَّكَ جناحيه ثم فتح منقاره المعقوف كسنارة صيد، فغرت فمي دهشة حين سمعته يتكلم بلغة إنكليزية صافية:

- تأخرّنا.

ضحك المشرّد بسعادة، بينما هبط الببغاء ليقف على مقود الدراجة يحثُّ صاحبه لمغادرة الحديقة، لم استغرب إذْ كلما زرت هذا المكان أجد هذا المشرّد يتنزه مع الببغاء، وأحيانا أراه في الكنيسة عندما أذهب للحصول على خبز مجاني حتى أصبح صديقي، اقتربت قائلا:

- كيف حالك؟

نبس المشرّد:

- بخير.

لدقائق تأملتُ الببغاء ثم غادرت وروحي مثقلة بحزن ذكريات داهمتني بقسوة، وصلت إِلى محطة المترو، وفوجئت بحشود الناس الذين كانوا يرقصون ويغنون بمسرّة وحبور؛ بينما كانت أجراس أعياد الميلاد تقرع إيذاناً بقدوم عام جديد على غربتي. بعد يومين مكتئباً غادرتُ شقتي نحو حانة الجمل الظامئ، غذّيت خطاي لأشرب كأساً من البيرة الأيرلندية السوداء، كلما أشعر بالضيق أحتسي هذه البيرة لنسبة كحولها العالية، لم أجلس إِلى منضدة البار كعادتي، اتخذت من طاولة تطل على شارع Northbridge “جسر الشمال» مكانٌ للترويح عن نفسي، شارع مزدحم بالحانات وملاهي الليل وصالات لعب إلكترونية ومكاتب مراهنة لسباق الخيول والكلاب ومطاعم صينية وهندية وإيطالية مع كشك يتيم لرجل إندونيسي يبيع طعاما حلالاً، زحام سيارات ومحتفلين وغانيات ومثليين يصبح بذروته خلال أيام العُطل، شارع مجنون يبقى مستيقظا حتى الفجر أمام أنظار الشرطة التي تتواجد بكثافة، أحيانا تتدخل الشرطة الخيّالة لفض نزاع بين السكارى، كوكبة فتيات مراهقات يقطرن أنوثة بملابس مثيرة وفاضحة ترفرف أمام ناظري الآن، لبثتُ أشرب كأس فُقَّاعٍ على مهل، لم تكن لديَ رغبة باصطياد إحداهن إِلى شقتي، كنتُ أفكّر بمصير أصدقائي الصعاليك الذين تركتهم يتجرعون لوحدهم عذابات لا نهاية لها في الوطن، تنبَّهتُ لفتاة ثملة تعرّت على الرصيف وانغمرت ترقص بهيستريا، لبثتُ أتفرس بجسدها العاري بشهوة، بسرعة أخذتها شرطية إِلى مركبة مصفّحة كأنها معتقل صغير وأفسدت عرضا خليعاً حدث أمامي بالمجان، انتهيت من شرب كأسين، ركبتُ باصاً مجانياً يدعى القط الأسود إِلى محطة المترو، هنا أكثر من باص ينقلك مجاناً من داخل المدينة إِلى أطرافها وبالعكس، ركبتُ قطاراً حديثاً يعمل على الطاقة الكهربائية، نصف ساعة بالضبط مسافة الطريق إِلى ميناء فريمنتل Fremantle ؛كانت الساعة تشير إِلى الساعة الواحدة بعد الظهر عندما وصلت، بدأتُ التجوال في سوق قديم يعرض مقتنيات تعود إِلى الأبروجنول، أقدامهم أول من دشَّنت أرض هذه القارة، في متحف صغير وقفتُ أتأمل بحب ما صنعه هؤلاء القوم قبل مئات السنين، سفينة محطمة وسارية لما تزل تحتفظ بشراع متهرئ مصنوع من نسيج الكتان، رسومات متوحشة على خرق من الجنفاص وأدوات طبخ صدئة وأزياء من الجوت تشبه ملابس إنسان حجري قديم، غليون قبطانهم وزجاجة خمرته الخضراء، هدير موج البحر أسمعه ينبعث من مكبرة صوت أجهل مكانها، أترك المتحف متوجهاً إِلى ضفة المحيط الهندي، وهناك أصيخ سمعي لجبروت هدير موجه وأتطلع لتخومٍ نائيةٍ  كأنها قطعان جاموس تعوم في لجة الهور ثمَّ أجلس بمطعم يقدّم سمكاً شهياً مع أصابع بطاطا مقلية بالدهن، أتناول وجبة مع زجاجة بيرة ثم استقل المترو، من نافذة عريضة أرنو إِلى أرتالَ سيارات جديدة تصطف على رصيف الميناء وبواخر عملاقة تزفرُ أبراجها سُحباً رصاصيةً، ذكّرتني بدخان جبهات الحرب، أهبط في منطقة كوتسلو Cottesloe وأقطع المسافة نحو شاطئها ناقلاً خطايَ على مهل بطريق تحفُّ بي أشجار سرو من الجانبين، عند نخلة وحيدة بتمر شيّص لعدم تأبيرها، أسندتُ ظهري على جذعها متطلعا إِلى شاطئ المحيط، كلما زرتُ هذا المكان، أحرص أنْ يكون وقوفي تحت هذه النخلة العاقر، أجد تحت ظلالها ملاذاً حنونا، وتذكّرني بنخيل مثمر بأرطابه يغطي مساحات شاسعة من جنوب الوطن، بينما هنا لا يأبرّون طلع النخل ويتركونه عانساً، فهم يرونه مجرد شجر زينة ليس إلاّ، شاهدتُ زحاماً كثيفاً للمصطافين، كانوا شبه عراة يضطجعون باسترخاء على رمله الحار، تابعت أنظاري بمتعة مجموعة نساء بملابس سباحة يرقصّن بانطلاق على موسيقى صاخبة تنبعث من جهاز تسجيل جاثم على الرمل، راحت إحداهنَّ تطش رذاذ الشمبانيا من زجاجة كبيرة على رؤوس صويحباتها اللائي ملأن المكان بالكر كرات، رغبة استبدت بدمي لاقتناص امرأة منهنَّ إِلى سرير شقتي، أفلحتُ بذلك من قبل، لكن اليوم يبدو أنَّ الأمر استعصى عليَّ، لاحقتُ امرأة ثملة بالأربعين من العمر تترنح على مرج الحديقة، ملامحها الآسيوية أثارت شهيتي للحديث معها، فوجئتُ برجل إيطالي عجوز أقبل


مشاهدات 45
الكاتب حسن النواب
أضيف 2025/12/22 - 3:27 PM
آخر تحديث 2025/12/23 - 5:58 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 562 الشهر 17299 الكلي 13001204
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير