الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في اليوم العالمي للغة العربية

بواسطة azzaman

في اليوم العالمي للغة العربية

عباس النوري العراقي 

 

لغةٌ لا تُترجَم روحها في اليوم العالمي للغة العربية، لا نحتفي بحروفٍ مرصوصة ولا بقواعدَ جامدة، بل نقف إجلالًا أمام كائنٍ حيٍّ تنفّس التاريخ، وحمل الوجدان، وصاغ العقل، وبنى الحضارة. العربية ليست وسيلة تواصل فحسب، بل وعاء فكر، ومحراب معنى، وسيف بيان، كلما ظنّها البعض قد شاخت، عادت أكثر صلابةً ونضجًا. قوة اللغة العربية لا تكمن في قدمها، بل في مرونتها التي لا تنكسر، وفي قدرتها الفريدة على حمل المعنى الواحد في وجوهٍ متعددة، دون أن تفقد دقته أو جماله. كلمة واحدة في العربية قد تُولد عشرات المرادفات، لا تكرارًا أجوف، بل فروقًا دقيقة تعبّر عن اختلاف الحال والزمان والشعور. فالحبّ ليس حبًا واحدًا، بل هو هوى، وصبابة، وشغف، ووجد، وعشق… ولكل لفظة مقامها وحرارتها. وهنا تتفوّق العربية على لغاتٍ كثيرةٍ ضاقت مفرداتها فاتّسعت شروحها. أما صلابة العربية، فهي صلابة نابعة من نظامٍ داخلي متماسك؛ جذرٌ ثلاثي يولّد عالمًا من الاشتقاق، فيربط الألفاظ بالمعاني ربطًا منطقيًا وعقليًا، حتى كأن اللغة تفكّر معك لا بدلًا عنك. فهي لغة قادرة على احتضان الفلسفة كما تحتضن الشعر، وعلى حمل التشريع كما تحمل العاطفة، دون أن يطغى جانب على آخر. وحين نبلغ ذروة البيان، نقف عند لغة القرآن الكريم؛ النص الذي أعجز البلغاء، وحيّر الفلاسفة، وبقي حيًّا في الأذهان والقلوب عبر القرون. لغة لا يعلوها بيان، ولا يُدانِيها نسق، لأنها لم تكن نتاج عقلٍ بشري، بل خطاب السماء إلى الإنسان. ويأتي بعد القرآن، نهج البلاغة، كلام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بوصفه الذروة الإنسانية في التعبير العربي. فيه تتجسّد العربية عقلًا وحكمةً وفلسفةً وخطابة. جُملٌ قصيرة تهزّ الضمير، وألفاظ قليلة تحمل معاني واسعة، وبيانٌ يجمع بين عمق الفكرة وجمال العبارة. في نهج البلاغة، لا تُقرأ الكلمات فقط، بل تُستنهض العقول، وتُربّى النفوس، وتُستخرج من اللغة طاقتها الأخلاقية والفكرية. هو خطاب لا يعلوه إلا خطاب القرآن، لأنه تلميذ تلك المدرسة الإلهية. اللغة العربية، إذن، ليست تراثًا نضعه في المتاحف، بل مسؤولية نحملها إلى المستقبل. وحين نضعف في استخدامها، لا تضعف هي، بل نضعف نحن. فهي باقية بصلابتها، عميقة بمعانيها، متفردة بقدرتها على الجمع بين العقل والقلب، بين الفكر والجمال. في يومها العالمي، نقول: العربية ليست لغة الماضي، بل لغة الحقيقة؛ ومن أراد أن يفهم الإنسان، والكون، والعدالة، والروح… فليُصغِ جيدًا، فالعربية لا تزال تتكلم.

 

 


مشاهدات 67
الكاتب عباس النوري العراقي
أضيف 2025/12/20 - 12:03 AM
آخر تحديث 2025/12/20 - 1:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 74 الشهر 14417 الكلي 12998322
الوقت الآن
السبت 2025/12/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير