الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نريد حكومة إقتصادية ذات هوّية وبرنامج وفريق منسجم

بواسطة azzaman

نريد حكومة إقتصادية ذات هوّية وبرنامج وفريق منسجم

حسين الفلوجي

 

في كل مرة يُعاد فيها تشكيل الحكومة في العراق، تُرفع لافتات الخدمات وفرص العمل ومكافحة الفساد، لكن جوهر الأزمة يبقى كما هو: اقتصاد مختل، ريعي، هش، يستهلك ثروة البلد بدل أن يبني مستقبله. ما يحتاجه العراق اليوم ليس حكومة جديدة بالأسماء ذاتها والمنطق ذاته، بل حكومة اقتصادية ذات هوية وبرنامج وفريق منسجم؛ حكومة تعترف بأن إصلاح الاقتصاد هو المدخل الحقيقي لإصلاح الدولة، وأن الخدمات المستقرة لا تُصنع إلا على أرضية مالية وإنتاجية متينة.

هذه المقالة تحاول الإجابة عن سؤال واحد: أي حكومة نريد في المرحلة المقبلة؟ وتنطلق من قناعة بأن الأولوية يجب أن تُمنح للإصلاح البنيوي للاقتصاد، وأن أي حكومة لا تمتلك توجهًا اقتصاديًا واضحًا ومتماسكًا لن تكون إلا حلقة جديدة في سلسلة إدارة الأزمة وتأجيل الانفجار.

عمق الأزمة الاقتصادية في العراق

أزمة العراق ليست مجرد انقطاع كهرباء وسوء طرق، بل أزمة هيكل اقتصادي كامل. يعتمد الاقتصاد شبه كليًا على النفط، فيما يتضخم القطاع العام مقابل ضعف إنتاجيته، ويُترك القطاع الخاص أمام بيئة قانونية معقدة واستثمارية طاردة.

يترافق ذلك مع تشوّه خطير في الإنفاق العام يميل لصالح الرواتب والدعم غير الموجّه على حساب الاستثمار، ومع فساد وضعف حوكمة وغياب سياسة اقتصادية واضحة. في هذا المناخ، تصبح الحكومات المتعاقبة مجرّد إدارات للأزمة لا مشروعات حقيقية للخروج منها، ويبقى المجتمع أسير اقتصاد لا ينتج ما يكفي لتمويل ما يَعِد به.

أولوية الاقتصاد قبل الخدمات

المطالبة بالخدمات حق، لكن ترتيب الأولويات شرط لبقاء الدولة واستقرارها. وضع الإصلاح الاقتصادي في المقدمة لا يعني تجاهل معاناة الناس، بل يعني الاعتراف بأن الكهرباء والصحة والتعليم والنقل لن تستقر من دون اقتصاد منتج، وموازنة منضبطة، وإيرادات متنوعة.

حكومة ترفع شعار “الخدمات أولًا” من دون رؤية اقتصادية واضحة، إنما تشتري الوقت ولا تعالج الأصل. أما الحكومة التي تقول بوضوح: “سنُصلح الاقتصاد لكي تستقر الخدمات وتُخلق فرص العمل”، فهي حكومة تفكر بمنطق الدولة لا بمنطق الدورة الانتخابية، وتربط بين ما تطلبه من المجتمع اليوم وما تعده به غدًا.

مفهوم الحكومة الاقتصادية ذات الفريق المنسجم

الحكومة الاقتصادية ليست حكومة “وزراء اقتصاد” فحسب، بل حكومة ذات هوية اقتصادية واضحة من اليوم الأول: تعلن أن هدفها المركزي هو الإصلاح الاقتصادي، وتترجم هذا الهدف إلى برنامج مكتوب، قابل للقياس، محدد الأولويات والجداول الزمنية، بعيد عن العموميات والإنشاء.

تحتاج هذه الحكومة إلى شعار سياسي–اقتصادي صريح يواجه الناس بالحقيقة: “الإصلاح الاقتصادي أولًا، كي تأتي الخدمات مستدامة”، لا إلى وعود فورية بلا أساس واقعي. كما تحتاج إلى وزراء يمتلكون فهمًا وثقافة اقتصادية رصينة، لا مجرد تمثيل لحصص سياسية؛ فالموقع الاقتصادي يتطلب وعيًا بطبيعة الإصلاح، وقدرة على العمل ضمن رؤية متماسكة.

في قلب هذه الحكومة يجب أن يوجد فريق اقتصادي منسجم يضم الوزارات المعنية بالمالية والتخطيط والنفط والتجارة والصناعة والعمل والزراعة وغيرها، يعمل وفق رؤية واحدة، ويتشارك فهمًا موحدًا لأولويات الإصلاح وأدواته. هذا الانسجام ليس تفصيلًا شكليًا، بل شرط لعدم تحول الحكومة إلى ساحة تناقض داخلي يفرغ البرنامج من مضمونه.

مخاطر الحكومة ذات التوجهات المتناقضة

التجربة أثبتت أن أحد أخطر معوّقات الإصلاح هو تشكيل حكومات على قاعدة “الكل داخل الحكومة” مهما كانت التوجهات متصارعة. حين يجتمع في حكومة واحدة من يدفع نحو اقتصاد سوق منفتح، مع من يطالب بلا سقف للتوظيف الحكومي، ومن يتحدث عن تقليل الاعتماد على النفط مع من يوسع الإنفاق الريعي، تكون النتيجة قرارات متناقضة وبرنامج حكومي بلا روح.

حكومة بلا هوية اقتصادية، أو بهوية مزدوجة، لا يمكنها أن تقود إصلاحًا جادًا مهما كانت عناوينها جذابة. المطلوب في المرحلة المقبلة هو حد أدنى من الانسجام الاقتصادي داخل الحكومة، بحيث يتحرك الوزراء المعنيون ضمن خط واحد لا خطوط متعاكسة، حتى لو بقيت الخلافات السياسية قائمة في ملفات أخرى.

رسالة وخاتمة

إلى القوى السياسية، المرحلة المقبلة لا تحتمل مزيدًا من التجريب في نماذج الحكومات الرمادية. الخيار الحقيقي هو بين حكومة اقتصادية جادة ذات هوية واضحة وبرنامج واقعي وفريق منسجم تعترف بعمق الاختلال وتتحمل كلفة إصلاحه، وبين استمرار حكومات إدارة الأزمة وترحيل المشكلات إلى المستقبل.

وإلى الشارع العراقي، المطالبة بالخدمات لا تنفصل عن المطالبة بإصلاح اقتصادي حقيقي؛ فخدمات بلا اقتصاد مستقر وهمٌ زائل. ما نحتاجه اليوم هو حكومة تمتلك الشجاعة لتقول إن الطريق إلى خدمات دائمة يمر أولًا عبر إصلاح بنية الاقتصاد، لا عبر وعود سريعة قصيرة النفس.

إذا نجحنا في تشكيل حكومة اقتصادية ذات هوية وبرنامج وفريق منسجم، فلن تُحل كل مشكلات العراق دفعة واحدة، لكن البلاد ستدخل أخيرًا طريقًا مختلفًا نحو دولة منتجة، واقتصاد متنوع، ومجتمع يستحق أن يعيش في كرامة واستقرار.


مشاهدات 60
الكاتب حسين الفلوجي
أضيف 2025/12/14 - 4:06 PM
آخر تحديث 2025/12/15 - 12:37 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 33 الشهر 10610 الكلي 12994515
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير