الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
النخب الفيلية بين المطرقة والسندان

بواسطة azzaman

النخب الفيلية بين المطرقة والسندان

حسام الحاج حسين

 

انتهى التهميش العسكري للكرد الفيليين بسقوط النظام الدكتاتوري، لكن التهميش السياسي لم ينتهِ، بل تبدّل شكله فقط. فبعد عام 2003 فرض الواقع السياسي نمطاً هجيناً من الهوية الثقافية للكرد الفيليين، هجيناً متناقضاً يقوم على سحق المعرفة وتجريف الثقافة بين مطرقة المذهبية وسندان القومية. هذا الواقع لم يترك مجالاً لظهور صوت حقيقي للنخب الفيلية، بل صنع فجوة واضحة وواسعة بينها وبين السياسيين الفاسدين الذين اعتلوا المنابر متسربين عبر ثغرات المشهد الجديد.

إن السلوكيات القائمة على أساس التعالي، تلك التي تعطي فئة معينة الحق في الحديث باسم المكوّن مع النظرة الدونية المتعمدة لباقي الفئات، ليست سوى سقوط وضيع لقيم الإنسانية، ونسخة بائسة من ممارسات الاستحواذ التي تقتل روح المجتمع. فالنخب بطبيعتها ليست مجرد واجهة؛ إنها الذاكرة الثقافية والعقل النقدي. لكنها لا تستطيع ممارسة دورها الطبيعي في صياغة مفاهيم المعرفة ما دام الواقع السياسي يمسك بخناقها، وما دام «تجّار القضية» يتوهمون أنهم الأجدر لتمثيل المكوّن فقط لأنهم يملكون مقعداً أو مكسباً أو خطاباً شعبوياً لحظياً.

مشروع سياسي

المشكلة ليست في النخب وحدها، بل في القائمين على المشروع السياسي الذين يعملون منذ سنوات على تحييد الوعي وتقليص مساحة المعرفة، حتى أصبحت محاولة النهوض بالخطاب الفيلي أشبه بمحاولة الزراعة في أرض تتعرض يومياً لعمليات تجريف متواصلة. نحن لا نجلد الذات هنا، بل نعكس واقعاً حيّاً، يتكرر صداه في الأوساط الثقافية، والبرلمانية، ومؤسسات المجتمع المدني التي يثقل عليها الواجب أكثر من أي وقت مضى، لأنها مطالبة بأن تعيد تنظيم صفّها وأن تنهض بأبنائها بدل أن تتحول إلى مجرد ديكور سياسي.

فالعداء بين النخبة المثقفة والسياسي الفاسد عداء قديم وأزلي. يكاد التاريخ كله يُجمع على أن الصوت الثقافي الحر هو العدو الأول للسلطة الانتهازية، وأن الكلمة—إن وُضعت في مكانها—أشد بأساً من المال والنفوذ، وقادرة على إرباك الفاسد أكثر مما تفعل كتلة سياسية. لذلك كان السياسي الانتهازي، منذ عقود، يتاجر بآلام المكوّن، ويختزل «دستوره» في إبعاد النخب قدر المستطاع، لأن وجودها يهدد صفقاته ويكشف زيف شعاراته. فالنضال بسنّ القلم يبقى فعلاً مزعجاً لسوء الفاعل السياسي، وهو نضال قد يتعثر وقد يشعر بالغربة أحياناً في عالم غير متزن، لكنه ينهض في كل مرة ليكتب، ليشخّص، ليهزّ الركود، وليمنع اكتمال مشروع الإقصاء.

اليوم تعيش الطبقة النخبوية الفيلية حالة من التفكك والضعف لم تشهدها العقود الماضية.

رغم أنّ الجميع ظنّ أن سقوط النظام منح المكوّن حرية حقيقية، وأن المرحلة المظلِمة قد انتهت بلا رجعة. لكن ما حدث كان مجرد تغيير في الواجهة: فنداءات الوطنية كانت شكلية، وكراسي السلطة توزعت على من يجيد التجارة بالقضية، والمناصب والقرارات السيادية بقيت تحت يد الفئة نفسها التي لم تتخلّ يوماً عن نزعتها الإقصائية. النظام سقط عسكرياً فقط… أما أدوات التهميش فبقيت تعمل بنفس الروح القديمة، ولكن بثياب جديدة.

إن سياسات الإقصاء ما زالت تسير وفق خطوات ممنهجة تهدف إلى تحييد الوعي وسلب القوة المعنوية للمكوّن. بعض الهياكل السياسية تحولت إلى بؤر استغلال للمكانة الرمزية، حتى بات الاستسلام للفاعل السياسي الفاسد وكأنه قدر لا مفر منه. وهذا الاستسلام يمنح السياسي القناعة بأن التراخي موجود، وأن النخب لن تتحرك، فيواصل العبث كما يشاء.

لكن التجارب التاريخية تثبت أن التهميش السياسي لا يسقط بالسلاح فقط، بل بسقوط أدواته الفكرية، وبإحياء الوعي الجمعي، وبعودة النخب إلى مكانها الطبيعي. وهذا ما يفتح الباب لقضية مشابهة قد تفيد في قراءة المشهد الفيلي اليوم .

قضية كرد تركيا مثال يوازي التجربة الفيلية .!

بعد انهيار الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة، لم يعد هناك قمع عسكري شامل للأكراد كما كان في الحروب، لكن التهميش السياسي والثقافي ظل قائماً بقسوة.

فالدولة منعت استخدام اللغة الكردية عقوداً، وحرمت النخب الكردية من المشاركة في صياغة الهوية الوطنية، وحوّلت أي خطاب ثقافي كردي إلى جريمة سياسية. لم يكن هناك جيش يجتاح القرى كل يوم، لكن كان هناك نظام سياسي يطوّق الوعي ويُقصي الثقافة ويضيّق على كل محاولة للنهوض الفكري.

النتيجة كانت مجتمعاً كردياً يتعرض لتهميش ناعم لكنه عميق، تماماً كما يحدث للكرد الفيليين اليوم،

سقط التهديد العسكري؟ نعم

سقط التهميش السياسي؟ لا

تجربة كرد تركيا تؤكد أن سقوط النظام العسكري لا يعادل نهاية الإقصاء، وأن النخب حين تُبعد، يُبعد معها التطور كله.

حسام الحاج حسين

مدير مركز الذاكرة الفيلية

للدراسات والتنمية .


مشاهدات 64
الكاتب حسام الحاج حسين
أضيف 2025/12/09 - 3:47 PM
آخر تحديث 2025/12/10 - 9:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 299 الشهر 7111 الكلي 12791016
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير