الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين تنشر الحقيقة ويحجب حاملها

بواسطة azzaman

حين تنشر الحقيقة ويحجب حاملها

فاتن يوسف

 

لم يعد الطريق إلى غرف الأخبار ممهداً كما كان في السابق. فالصحفي الذي كان يحمل قلمه ومعرفته وخبرته المهنية كجواز عبور إلى المؤسسات الإعلامية، بات اليوم يواجه جداراً غير مرئي من الولاءات والاشتراطات التي لا علاقة لها بمهاراته ومهنته، ما دفع عدداً متزايداً من الصحفيين إلى الهروب نحو المنصات الشخصية، بحثاً عن مساحة حرة يستطيعون فيها ممارسة مهنتهم بلا قيود. تبدو هذه الظاهرة نتيجة طبيعية لتغوّل اللوبيات السياسية والاقتصادية على غرف الأخبار، وتحويل المؤسسات الإعلامية إلى أدوات نفوذ، أكثر منها منصات مستقلة تُصنع فيها الحقيقة ويُصاغ الرأي العام. ومع غياب الاعتبار لرأي الصحفي ومهنيته، وجد كثير من العاملين في هذا المجال أنفسهم خارج المنافسة، لا لضعف مهاراتهم، بل لافتقارهم إلى «شبكة علاقات» تضمن بقاءهم في مؤسسات تُدار بمنطق الولاء لا الكفاءة

لقد انعكس هذا الواقع على جودة العمل الإعلامي بشكل خطير. فحين يصبح معيار التعيين في المؤسسات مبنياً على القرب من أصحاب القرار، لا على الاحتراف والقدرة المهنية والثقافة والعلم، يتراجع مستوى المنتج الإعلامي وينهار جوهر الرسالة الصحفية. ومع الوقت، فقد الجمهور ثقته بالقنوات والصحف التي كان يعدّها يوماً مصادر موثوقة للمعلومة بسبب تراجع أداءها، فلجأ إلى منصات السوشيال ميديا، بحثاً عن بدائل قد تبدو حرّة وسريعة، لكنها في الأغلب تفتقر إلى أبسط أصول الدقّة والتحقّق. وهكذا، وجد المتلقّي نفسه أمام سوق فوضوي للمحتوى، يتقدّم فيه الأكثر انتشاراً لا الأكثر مهنية، ما فاقم أزمة الثقة بين الجمهور والإعلام التقليدي.

تنقّل صحفي

لكن المشكلة لا تقتصر على تغيّر معايير التوظيف أو السيطرة التحريرية، بل تمتدّ إلى داخل حياة الصحفي ذاته. إذ تحوّلت الصحافة لدى كثيرين من مهنة تحمل رسالة إلى وظيفة خاضعة للعرض والطلب. يتنقّل الصحفي أحياناً بين المؤسسات فقط للحصول على دخل أفضل، لا لأن خطّها التحريري يعبّر عنه، ولا لأنها تمنحه فرصة لصناعة محتوى يعكس قناعاته.

وفي الجهة المقابلة، يتمسّك آخرون بمؤسسات تُجرّدهم من أبسط حقوقهم المهنية والإنسانية، لا لشيء إلا لأن الظروف المعيشية لا تمنحهم رفاهية المغادرة أو المغامرة في سوق يبدو مغلقاً أمام من لا يحظون بوساطة أو دعم

هذا الواقع حوّل كثيراً من الصحفيين إلى موظفين ينفّذون المطلوب، لا منتجين يمتلكون بصمة أو رؤية. ومع الوقت، فقد بعضهم الحماسة التي دخلوا بها هذا المجال، وتوارى حسّهم الصحفي خلف ضغوط المعيشة والخوف من البطالة. وفي ظلّ هذه المعادلة المختلّة، يصبح من الصعب انتظار صحافة مبدعة، أو مواد متقنة، أو تحقيقات عميقة، لأن البيئة التي يُفترض أن تحتضن الإبداع تحوّلت إلى بيئة طاردة له

ومن هنا برز اللجوء إلى المنصات الشخصية بوصفها محاولة لاستعادة الصوت المصادَر، ومساحة للعودة إلى الجوهر الأول للمهنة: البحث عن الحقيقة ونقلها بلا سقوف. لكن هذه الخطوة، رغم أهميتها، تبقى حلاً فردياً لمرض بنيوي أعمق. فالإعلام لا يُبنى بمنصات متناثرة مهما كانت مؤثرة، بل بمؤسسات ذات استقلالية حقيقية، ومعايير مهنية عادلة، وبيئة تُقدّر الصحفي ولا تحاصره

إن إعادة الاعتبار للصحافة بوصفها رسالة لا مجرد وظيفة تبدأ بإصلاح البيئة التي يعمل فيها الصحفي، وضمان حقوقه، وفتح الباب أمام الكفاءة بدل الولاء. من دون ذلك، سيواصل الصحفيون الهجرة إلى فضاءات خاصة، وسيبقى الإعلام التقليدي يخسر جمهوره، بينما تزداد الساحة امتلاءً بالمحتوى سريع الانتشار ضعيف المصداقية، في مشهد يهدّد مستقبل المهنة كلها.


مشاهدات 43
الكاتب فاتن يوسف
أضيف 2025/12/08 - 3:36 PM
آخر تحديث 2025/12/09 - 8:37 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 273 الشهر 6368 الكلي 12790273
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير