العراق ومحنة المصارف.. نظامٌ يُطارد المودعين بدل أن يجذبهم
عماد آل جلال
يعيش النظام المصرفي في العراق حالة غريبة من الانفصال عن العصر. فبينما تتجه الدول إلى رقمنة خدماتها وتسهيل فتح الحسابات وتقديم الحوافز الادخارية، ما تزال المصارف العراقية – الحكومية منها خصوصاً – تعمل بعقلية إدارية شديدة الجفاف تُثقل كاهل المواطن ولا تمنحه أي شعور بالطمأنينة أو المرونة. أبرز الأمثلة على ذلك مطالبة مصرف الرافدين، وهو أقدم وأكبر مؤسسة مصرفية حكومية، من المودعين تجديد بياناتهم كل ستة أشهر. هذا الإجراء الذي يُفترض أن يكون استثنائياً، يتحول إلى طقس بيروقراطي يعكس عطباً عميقاً في النظرة إلى الزبون. فالعلاقة المصرفية في جوهرها علاقة ثقة واستقرار طويلة الأمد، لا معاملة متقطعة الصلاحية تُلزم المواطن بالوقوف في الطوابير وإحضار المستمسكات مراراً من دون مبرر حقيقي. النظام المصرفي العراقي يفتقر إلى ثلاثة عناصر أساسية:
الأول، غياب البنية التكنولوجية القادرة على التحديث الذكي للبيانات دون الحاجة لمراجعة فروع المصرف.
الثاني، اعتماد تعليمات رقابية صُممت بمنطق الخوف لا بمنطق التنمية، حيث تُعامَل حسابات المواطنين كأنها ملفات قد تتعرض للضياع أو سوء الاستخدام. الثالث، انعدام الرؤية التسويقية التي تجعل المصرف يبحث عن المودعين ويغريهم بالخدمات لا أن يثقلهم بالإجراءات. في المقابل، يحتضن العراق واحدة من أكبر الكتل النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي. ملايين الدولارات والدنانير تتحرك بلا أثر اقتصادي حقيقي لأنها لا تجد طريقها الآمن والمرن إلى البنوك. والنتيجة أن المصارف تخسر، والاقتصاد يخسر، والمواطن يخسر. لكي يستعيد القطاع المصرفي دوره التنموي، لا بد من اتخاذ ثلاث خطوات جوهرية: تحديث شامل للأنظمة الإلكترونية وربطها بالسجل المدني والبطاقة البايومترية لتحديث البيانات تلقائياً. تبسيط إجراءات فتح الحساب وخفض الحدود الدنيا للإيداع وتشجيع الحسابات الإلكترونية. إطلاق حملة وطنية للادخار المصرفي تتضمن حوافز حقيقية، وفوائد منافسة، وخدمات رقمية تليق بالمواطن. إن بقاء المصارف أسيرة لتعليمات متخشبة سيبقي الاقتصاد رهينة للسيولة خارج النظام. والمفترض أن يتحول الرافدين وزملاؤه من مؤسسات تُلاحق المودعين كل ستة أشهر… إلى مؤسسات تبني الثقة وتجذب الأموال وتدفع عجلة التنمية. بهذه الرؤية، يمكن للنظام المصرفي أن ينتقل من مرحلة «إدارة النقود» إلى مرحلة «إدارة النمو» التي يحتاجها العراق بشدة.