الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تماثيل بغداد ذاكرة تتآكل

بواسطة azzaman

تماثيل بغداد ذاكرة تتآكل

حاكم الشمري

 

على أرصفة بغداد، حيث يمر الزمن ببطء وتختلط رائحة التاريخ بصخب الحياة، ما زالت التماثيل تقف كأنها تحرس الذاكرة، تروي حكايات مدينةٍ لا تنام، مدينةٍ مرّت عليها كل الفصول ولم تفقد ملامحها تمامًا. كهرمانة ما تزال تصبّ الزيت في جرارها وسط الكرادة، بينما أبو نؤاس ينظر نحو دجلة متأمّلًا القصيدة والشراب، وتمثال الرصافي يرفع رأسه في ساحة تحمل اسمه، كأنّه يستنطق المارة هل بقي للكلمة وزن في هذا الضجيج؟

كانت بغداد ذات يوم مدينة التماثيل والجدران الناطقة، من جدارية فائق حسن التي اختزلت تاريخًا فنيًا في مشهدٍ واحد، إلى نصب الحرية الذي صممه جواد سليم، فصار أيقونةً تروي قصة شعبٍ خرج من الظلمة إلى النور. كانت تلك الأعمال ليست مجرد فن، بل وثائق نُحتت على الحجر لتخلّد نضالات المثقفين، وانكسارات المدن، وانبعاثها من جديد.

ولعل ارتباط العراقيين بالنحت ليس وليد العصر الحديث، بل يمتدّ إلى فجر الحضارات الأولى في سومر وأكد وبابل. هناك، حيث وُلدت أولى المدن، كان النحت لغة التعبير الأولى، فصنع الإنسان الطين على هيئة آلهةٍ وملوكٍ ومحاربين. ملايين التماثيل التي اكتُشفت في مواقع التنقيب من الوركاء إلى نينوى وبابل ليست مجرد أحجار، بل شواهد على وعيٍ مبكر بالجمال والخلود. تلك الوجوه الصغيرة ذات العيون الواسعة والملامح الساكنة كانت إعلانًا مبكرًا بأن العراقي لا يرضى أن يمرّ دون أثر، وأن الحجر عنده ليس جمادًا، بل ذاكرة نابضة بالحياة. من هناك، من عمق سومر، تسلّل الفن إلى عصور لاحقة، فحمل فنانو القرن العشرين الشعلة نفسها — جواد سليم، محمد غني حكمت، فائق حسن، خالد الرحال — ليعيدوا كتابة تاريخ العراق على البرونز والحجر والجبس. وهكذا، صار النحت العراقي جسراً يمتد من الطين السومري إلى البرونز الحديث، ومن المعابد القديمة إلى ميادين بغداد..لكن اليوم، حين تمر في شوارع العاصمة، تلمح التماثيل وقد غطاها الغبار، بعضُها مكسور، وبعضها محاط بأسلاكٍ أو أكوامٍ من القمامة. كأنّ الزمن قرر أن يعاقب الجمال، أو أن المدينة نسيت وجوهها القديمة. ومع ذلك، تبقى تلك التماثيل كحروفٍ بارزة في كتابٍ اسمه الذاكرة العراقية.. الأسئلة التي تطرح نفسها الآن: هل ما زلنا نمتلك الرغبة والشجاعة لصناعة رموزٍ جديدة تخلّد مثقفينا ومناضلينا؟

هل يمكن أن نرى يومًا تمثالًا لبدر شاكر السياب في شارع المتنبي، أو لجواد سليم في ساحة الفنون، أو لنازك الملائكة في حدائق الكرادة؟

الفنانون العراقيون ما زالوا هنا، يحملون نفس الموهبة والقدرة، لكنهم يفتقرون إلى المشروع الثقافي الذي يمنح النحت والمجسمات معناها. النُصُب ليست حجرًا فحسب، بل مشروع وطني يربط الأجيال بماضيها ويمنح المدن روحها. نحن بحاجة إلى حركة نحتٍ جديدة، تُعيد الاعتبار للفن العام، وتُحوّل الساحات إلى معارض مفتوحة تحكي وجوه المثقفين، والشهداء، والعلماء، والعاملين في صمتٍ لأجل العراق. فبغداد — المدينة التي أنجبت كهرمانة وأبا نؤاس وجواد سليم — لا تستحق أن تبقى بلا رموز جديدة.

المدن التي لا تصنع تماثيل لأبنائها، تمحو ذاكرتها بأيديها.

 

 


مشاهدات 34
الكاتب حاكم الشمري
أضيف 2025/11/11 - 5:44 AM
آخر تحديث 2025/11/11 - 7:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 263 الشهر 7553 الكلي 12569056
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير