أذن وعين
العراق تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب
عبد اللطيف السعدون
ربما يستفز هذا العنوان مشاعر البعض، وقد يثير حفيظة آخرين، وقد أوردناه بحسب أول «تغريدة» يطلقها مارك سافايا بعد تسميته مبعوثا شخصيا للرئيس دونالد ترامب الى العراق، تلك التغريدة التي أبلغنا فيها أنه «ملتزم بتعزيز الشراكة بين الولايات المتحدة والعراق تحت قيادة الرئيس ترامب وتوجيهاته»، وقد وجد عراقيون في ذلك بشارة تصحيح لوضع شاذ دام ثلاثة وعشرين عاما، فيما عدها آخرون خطوة نحو المجهول لكن المفارقة أن معظم العراقيين العاديين لم يعودوا يملكون ترف شراء الوقت حتى يناقشوا أمرا كهذا بعدما عانوا من المرارات حدودها القصوى منذ أن ارتكب الأميركيون خطيئة غزو بلادهم، وحتى اليوم، كما لم تعد هناك جدوى من البحث عن الحقيقة في كل هذا لأننا لم نعد نتحمل الحقيقة، بل نريد أوهاما تجعل حياتنا ممكنة، على حد ما قاله نيتشه، وهكذا ربما تدفعنا مبادرة ترامب لأن نتنفس الصعداء قليلا مع ادراكنا أنه لم يتخذ خطوته هذه اكراما لسواد عيوننا، وإنما قصده اعادة اجتراح الهيمنة على بلادنا، على نحو ناعم، مختلف عما فعله بوش الابن في حينه، وكان قد لمح الى ذلك عندما التقى في قمة شرم الشيخ الأخيرة برئيس الحكومة محمد شياع السوداني حيث قال «أن العراقيين عندهم نفط كثير لكنهم لا يعرفون كيف يستخدمونه»، هنا يجيء بيت القصيد، أن مهمة سافايا هي أن يعلمنا كيف نستخدم ثرواتنا التي منحتها لها الطبيعة!
أزيد من ذلك أن هذا التوجه الأميركي المستجد نحونا، والذي أخذ شكلا مميزا، لا يمكن رؤيته بمعزل عن هدف الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية في العمل على استحواذ أميركا على المعادن الأرضية النادرة التي تستخدم في تصنيع منتجات تشمل المحركات والفرامل وأشباه الموصلات والطائرات المقاتلة، وهو ما كشفته صحيفة «نيويورك تايمز»، وهو ما يريده الأميركيون أيضا من إيران وفنزويلا، وحتى من أوكرانيا، وهي الأقطار التي يقول علماء الجيولوجيا أنها غنية بهذه المعادن، وبعضها غير مكتشف لحد الآن.
فوضى خلاقة
لكن مشكلة العراق هي أنه، وبفضل «الفوضى الخلاقة» التي زرعها الأميركيون أنفسهم فيه، لم يعد بيئة صالحة لمغامرات من نمط التنقيب أو الاستكشاف أو الاستثمار، يضاف الى هذا وجود قوة غريمة على أرضه تتمثل في وكلاء إيران والميليشيات المرتبطة بها، والتي تمتلك السلاح والنفوذ والسطوة المذهبية، وتسيطر على اقتصاديات البلاد، وحتى على قرارها السياسي، كل هذا يعيق أية عمليات مطلوبة من واشنطن، لا بد إذن من صيغة تضمن «تنظيف» هذه البيئة، وتحجيم دور القوة الغريمة قبل الشروع في تنفيذ مشاريع وخطط تلبي الهدف المطلوب، وحيث أن العلاقة التي تقوم على عمل سفير وسفارة لا تفي بالغرض وجد ترامب ان الافضل، والاقدر على إنجاز المهمة رجل مغامر يأتي من خارج الصندوق، يمنح الصلاحيات التي يمكنه من خلالها تجاوز الروتين الثقيل، ويرتبط بسيد «البيـــــــت الأبيض» مباشرة دون المرور بالقنوات الدبلوماسية التقليدية، ولم يجد أفضل من مارك سافايا للقيام بهذه المهمة، وهو الذي جمع المجد من طرفيه، كونه عراقيا وأميركيا في آن، وسبق له أن سجل «مآثر» عديدة إذ اخترق عالم الميليشيات العراقية، وأقنع زعماءها بفك أسر الباحثة الإســـــــرائيلية- الروسية المختطفة إليزابيث تسوركوف بعدما عجزت حكومة بغداد عن ذلك، وضمن للجمهوريين أصوات الناخبـــــــين العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان «المتأرجحة»، وله خبرته في اقتناص الفرص والتربح، وقد فعل ذلك في انشاء مزارع قنب، وترويج الماريغوانا.
إلى ذلك، يعدنا سافايا الذي كانت هدية عيد ميلاده الأربعين أن يضع العراق في جيب سيده، يعدنا أن «يجعل العراق عظيما» عن طريق تحجيم هيمنة إيران، وتفكيك الميليشيات الموالية لها، ومحاسبة قياداتها، والعمل على تحقيق نقلة نوعية في المجال الاقتصادي تؤمن قيام بيئة صالحة للاستثمارات من خلال بنية اقتصادية تخدم مصالح الولايات المتحدة، وتعطي الأولوية للشركات والمؤسسات الأميركية.
وبالتالي، ومع التقدم العملي المنتظر في هذه الجوانب تأمل واشنطن أن يكون العراق مؤهلا للدخول في اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل.
وهكذا نكون قد عدنا 23 عاما الى الوراء، الى اللحظة التي دمر فيها الجنود الأميركيون أسوار بغداد، ومن مكر التاريخ أنه يعيد نفســــه مرتين، مرة كمأساة، ومرة كملهــــــاة، وفي الحالــــــين فإن العراق هو الخاسر.