الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
زيد الحلي.. نهرٌ لا يجف

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

زيد الحلي.. نهرٌ لا يجف

ياس خضير البياتي  

 

هو الأخ والصديق الطيب الذي عرفته منذ السبعينات، زميل الحرف، ورفيق الدرب الطويل في بلاط صاحبة الجلالة. عرفته يوم كانت الصحافة شغفًا لا مهنة، والتعبير مسؤولية لا ترفًا. كان، وما يزال، ذلك الصحفي النبيل الذي يحمل قلمه بيدٍ، وقلبه باليد الأخرى، ويكتب لا ليُقال عنه، بل ليُقال ما يجب أن يُقال.

بداياته الأولى كانت في صحيفتي(الحرية) و(العرب) في ستينيات القرن العشرين، حيث رسّخ حضوره بقوة وتميّز. اختار منذ البداية أن يكون الصحفي الذي لا يخشى الأسئلة الصعبة، ولا يساوم على المواقف. ترك بصمات لا تُمحى في الصحافة، من خلال حواراته مع السياسيين والمثقفين والفنانين، مقتنصًا الحكايات من أفواههم بذكاء وجرأة. كان لسان الناس، ومرآةً صادقةً للواقع، وراويًا مخلصًا للحكايات.

حين تقترب من عالم زيد الحلي، لا تحتاج إلى الكثير من الوقت لتدرك أنك أمام صحفي لا يشبه سواه؛ فهو ليس مجرد محترف في صناعة الخبر أو كتابة المقال، بل ذاكرة تمشي على قدمين، ووجدان يفيض صدقًا، وقلمٌ ينبض بما يشعر به قبل أن يخطّه على الورق. وهو ليس صفحة من تاريخ الصحافة العراقية، بل أحد الذين ساهموا في كتابته، لا بالصوت العالي، بل بالكلمة الهادئة التي تبقى، وبالحضور الذي لا يُفتعل.

ومنذ أن وطأت قدماه بلاط صاحبة الجلالة، عرف الحلي أن الصحافة ليست مهنة كما يتصورها البعض، بل رسالة، وعشق، وانحياز دائم للحقيقة، حتى لو كانت الطريق إليها محفوفة بالألغام. لم يتعامل مع الصحافة كمهنة رزق فحسب، بل كـ»قدر جميل»، تعايش معه رغم قسوته، وعشقه رغم تقلباته.

في كتاباته، لا تقرأ مجرد أخبار أو تحليلات، بل تشتم رائحة الأماكن، وتسمع صوت الوجوه، وتلمس نبض الشوارع. قلمه موهوب، لكنه لم يتوقف عند حدود الموهبة، بل راكم التجربة، وشحذ الوعي، وأدار الحرفة بمهنية عالية. فكان محترفًا يكتب بروح هاوٍ لا يفقد دهشته، ولهذا بقي قلمه حيًا، لا يشيخ.

هو من أولئك الصحفيين الذين لا يكتبون انتصارًا للضوء فقط، بل كشفًا للعتمة، ونبذًا للزيف، ودفاعًا عن العقل والمجتمع. وحتى حين يتناول الموضوعات الاجتماعية، وهي ميدانه المحبب، يفعل ذلك بشغف الباحث عن الجمال، لا المتصيد في الماء العكر.

صحفي دقيق يتوخى الإنصاف في جميع كتاباته، ويضع ميزان العقل قبل العاطفة، وميزان الوطنية قبل الاصطفاف. وهو حين يكتب، لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يعيد ترتيب الذاكرة الجمعية للمكان والناس، ويمنحهم شيئًا من الدفء والكرامة.

زيد الحلي هو باختصار: الكاتب الذي لم يغيّره الزمن، ولم تكسره الظروف، ولم تغوِه المناصب أو الأضواء. هو واحد من حراس الكلمة الشجعان، الذين جعلوا من الصحافة التزامًا وصدقًا وجمالًا. وما زال، رغم كل شيء، يمضي بقلمه كأنه يكتب أول مقال له... بنفس الحُب، بنفس الإخلاص، ونفس الوفاء للوطن والناس. ولهذا، فإنه يستحق أن يُكتب عنه في حياته، لا بعد رحيله كما اعتدنا أن نفعل مع الكبار، ولا من باب المجاملة أو السعي إلى مجد شخصي، بل لأن ما قدّمه من مواقف ومساهمات وتجارب يُشكّل جزءًا أصيلًا من ذاكرة الصحافة العراقية وتاريخها الحي.  إن الخوف من النرجسية أو المجاملة لا ينبغي أن يمنعنا من تسليط الضوء على مناراتنا الحقيقية، ممن منحوا الصحافة معناها وصدقيتها. ولعل مقولة 'مطربة الحي لا تُطرب' تعبّر عن عقدة نغفل بها عن تقدير القريبين منا، فلا نلتفت إليهم إلا بعد رحيلهم أو بعد أن يأتيهم الاعتراف من بعيد.

من هنا، أؤمن أن الإنصاف يقتضي الاعتراف بالفضل في حياة من يستحق، احترامًا للإنسان والتاريخ. وهذا ما ينطبق على زيد الحلي الذي، بجهده ومواقفه، أصبح أحد أعمدة الصحافة العراقية المعاصرة، لا كذكرى، بل كجزء من تاريخها الذي لا يُمحى. أعطى معظم عمره للصحافة، فكان فيها قلمًا لا يلين، وصوتًا لا يهادن. هو شجرة إبداع لا تزال تثمر، ونهر لا ينضب.

 

yaaas@hotmail.com


مشاهدات 69
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/10/19 - 2:46 PM
آخر تحديث 2025/10/20 - 2:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 13084 الكلي 12152939
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير