مكونات ورمــــوز.. مرئيات الفنان عباس الوندي
جاسم عاصي
يشتغل ذهن الفنان (عباس الوندي) على التداعي الحر الذي منحه سعة الرؤى ورحابة الرؤيا ،حيث حققت منجزاً فنياً صعد بآليات فنية للغور في مناحي اليوميات والمرئيات القريبة المتجسدة والبعيدة الكامنة في الذاكرة .فلوحته من هذا المنطلق تستفيد من ما من شأنه الارتقاء بمحتويات السطح المتخذ من المنحى الشعري أُسلوباً للارتقاء بمشهد الواقع .فهو يمتلك عين فاحصة متفائلة وهي تتعامل مع مرئيات متداخلة في الوجود .بمعنى يبدو الاتصال مع المفردات من منطلق الانتقاء ،فهو ليس فناناً انطباعياً ،بقدر ما هو فنان بحيازته معرفة مبكرة ساعدته على محاكاة الواقع الذي يواجه الإنسان إيجابية وسلبية .لكنه وكما نرى يعمد إلى التعامل مع المفردات اليومية من منطلق الغور الهادئ بأسرارها مكتشفاً تركيباتها وتفاوت علاقاتها ،كذلك يُجسد علاقاتها المكينة المستندة على القناعة والتروي .وسبب هذه الممارسة كونه فنان يتطلع إلى ما حوله بروح الشعر ،وهو شأن وجدته مسيطراً على الفنانين الكرد ،لأنهم يعيشون وسط بيئة لا تمنح إلا جمال الشعر الذي يجد لغته في ما حوله من ازدهار البيئة التي ما امتلك إلا عناصر الجمال المنعكسة على سطوح لوحات الفنانين .وبهذا حقق التنوع والاشراق الفني .
اشتباك العناصر /
أهم ما يُميز لوحات الفنان هو الاشتباك الذي تبني عليه معمار اللوحة .وهذا الاشتباك يبدو سلمياً بالرغم احتوائه على عناصر متباينة وقد تكون متناقضة من حيث بنيتها .ينتج من هذه الظاهرة المنتَجة من البنية الفكرية علامات ينتمي بعضها إلى الأساطير كتشكيلة بنيوية خالصة ،تأخذ مفرداتها من البيئة لتحقيق حراكاً دائماً وحيوية تتخاطر مع ذاكرة المتلقي البصري بما يُساعد على تنشيط المخيلة المقابلة ،ونعني بها مخيلة المتلقي . وهي خاصية دالة على حيوية الاستعمال المرتكز على المخيال الفني .ولعل الاشتباك هذا لا يمسك بالصرامة بقدر ما يأتي على نوع من الخلخلة في البناء ،بمعنى يمنح المفردات حيوية الحركة والتخاطر مع المجاور من الرموز ومع البناء العام للوحة. إن حركة المفردات المتخيلة تمنح الاستقبال حرية التعامل والبناء على بناء أسسه الفنان ،بمعنى يُتيح فرصة انبثاق الحيوية من تصور حركة المفردات بما تضفيه على المجاور من علاقة مبنية على التكامل على السطح المتوفرة من طبيعة التعامل ،أي التداعي الحر لغرض التأسيس للمعنى الأعم والأكبر .وهي سمة واضحة على لوحاته التي توحي بالتشابك وحيوية البناء .
اللون عنصر الخلق/
يعمل اللون كعنصر مؤسس للبنية الخاصة والعامة ،والفنان يترك الحرية لحركة ريشته في بناء معمار لوحته .فاللون بدرجاته يُضفي جمالية مدعومة بعنصر الخلق والتخاطر بلغة اللون التي هي لغة الشعر والموسيقى .فنحن كمتلقين لا نُفرّق بين موجودات اللوحة وذخيرة الشعر والموسيقى التي استحصلنا ،سواء من الطبيعة وجمالها أو مما قرأناه من شعر وسمعناه من موسيقى .فإذا اتفقنا بأن اللون لغة اللوحة ،يكون المجال أمامنا مفتوحاً لفهم واستيعاب وفرز المعطى .أعتقد أن هذا حاصل في لوحات الفنان التي ارتكزت في بنائها على التأمل والفحص الدقيق الذي منحته العناصر المحيطة بالفنان .فاللون ليس خطاً تفرضه الريشة لخلق الحراك بين العناصر ،وإنما هو انعكاس حيوي للبنية الذاتية للفنان ،والتي تستقرئ ذات الآخر ،تماما مثل الحرث في الأرض لاستنهاض خيراتها والغوص في البحر لاستخراج اللآلئ .
الرموز ودلالاتها /
لعل الرمز في أي جنس منتَج ينطلق من جوانية المنتِج .بمعنى يكون النص متعَلق يستنهض العناصر والتشكيلات الذاتية التي هي الذخيرة المعرفة للمنتِج .أو إنها حاصل تحصيل لما أوجدته الطبيعة كالشجر والنخيل والحيوات الأُخرى .فالذي توفر عليه الفنان جملة مفردات هي (الغراب وبقية الطيور /ابن آوى /الماء ) وغير هذا الكثير الذي يُسهم في بلورة رؤى الفنان بالاستناد على حيوات هي رموز قارّة ليس الآن ،بل هي متوفرة في ما تركه الإنسان كالأمل على (الجدران والأواني والنُصب ) .كذلك ما يتوفر في الطبيعة كالورود وأوراق الشجر وفاكهة العنب والتفاح وتأصيلهما من منطلق التاريخ الميثولوجي ،كتقدمات (زليخا) للنساء في (المِتكآة ) قبل دخول يوسف للمخدع .هذه المفردات التي هي أُسطورية في الأساس ساعدت على تصعيد المعنى من خلال تصاعد حراك السطح .فالحيوية لا تأتي إلا بتوفر حيوية الذات الفنية .وأرى أنها لازمة دائماً للفنان .
البورتريه /
في اللوحات التي اعتمدت البورتريه ،جسد الفنان حالات إنسانية دالة على الانفعال السلبي والإيجابي .وهي في جملتها وجوه صافية بريئة تعكس وجعاً وفرحاً وحزنا ً.وهي انفعالات تنتمي إلى البُعد الإنساني للنموذج الذي يواجه الواقع بمصد نفسي خالص تبنى عليه ظواهر اجتماعية وأُسرية توحي بطبيعة هذه الظواهر المفروضة على المرء .كما وأن الأشكال (الوجوه) توحي بالأناقة والتفاؤل كما هو مشهد الطير .إن هذا المنحى الفني يمنح اللوحة صورة لأن تكون جامعة للعناصر الصاعدة بالمنتَج ،كذلك تعكس البُعد النفسي له من خلال اللعب بالأشكال ومتغيراتها .فالانفعال يتطلب حركة فنية خاصة ،كذلك الفرح .وهذه خاصية يمتلكها الفنان ،لأنه يحرك الريشة وفق المعطى النفسي له .فهو ينهل من بئر ذاته التي شهدت تراكماً نوعياً تستلمه اللوحة بكل اقتدار وتمكّن .ومن هذا تتخذ من سعة السطح مجالاً للإنثيال الذهني الخاضع للتداعي الحر ،حيث يترك الفنان بصمته على أشكاله ورموزه المنبثقة من حراك اللوحة وحركة الذهن باستعمال أمثل للذاكرة والتراكم النوعي كما ذكرنا .لقد تجسد هذا عبر مجموع التخطيطات المتخذة من الرأس والأحلام والانطباعات المؤجلة وبنية الذاكرة مجالات أوسع لتحقيق المثل المتجسد في اللوحة .
رموز أُخرى /
لعل الخيول خاصية شائعة في الفن التشكيلي ،كخيول(فائق حسن) مثلاً ،وما تلاه من استعمالات لهذا الرمز الحيوي الذي حضر ليس في الفن التشكيلي ، وإنما في الأجناس الأُخرى للدلالة على الجمال والقوة .الفنان (عباس) تعامله معها من باب الجمال والرشاقة والطاقة الكامنة سواء في نظراتها أو قوة الجسد أو رشاقته .كذلك تعامله مع الطير وبقية الرموز من أجل اضفاء الحيوية على الشكل العام للسطح . إن أهم ما يميز خيول الفنان هو التأمل المحفوف بالسكون متناسياً ضخامة الجسد ،بل الاكتفاء برشاقته .وقد لعب اللون المتمثل على جسد الخيول كدالة على الدعة والرشاقة والألفة .وهي ألأوان تمنح الذات صفة السلام لهذا الرمز .
الطبيعة والمخيال /
الطبيعة تشكل العنصر الأساس للفنان ،حتى لو استل الجزء منها لتعميق الدلالة واتخاذها رموز للنماء والخصب .والطبيعة في لوحات الفنان محتشدة برموزها القارّة ،والفنان تعامل معها من باب المعينات ،خاصة حضور بعض عناصرها في لوحات متعددة ,كما هو إناء الفواكه فهور رمز شديد الاتصال بالتاريخ الميثولوجي .وهو مجال اتكأ عليه الفنان لعكس محصلته المرئية في الوجود .فهو الباحث عن الجمال في الأشياء ،وتلك صفة تنتمي إلى الشعر كما ذكرنا .كما وأنه خاضع لمكونات بيئته الزاخرة بالجمال وسعة الخيال .الأمر الذي لم يترك فرصة لعدم الاتصال بالطبيعة ضمن عناصرها المنتَجة .
إن الفنان(عباس الوندي) يسعى كما وجدناه من خلال لوحاته ،كونه شديد الحرص على التنوع والابتكار للأشكال التي لا تنتمي إلا إلى ذاته والتي تتعامل بحيوية فنية لعكس ما ادخر من معارف مُشاهَدة ومعاشه بحرارة الذات الحاملة لفرادة النفس البشرية وقوتها المعرفية.
إن الفنان يعمل ومن خلال لوحاته ويسعى إلى بلورة موقف أو مجموعة مواقف اتجاه الظواهر والبنيات المنتجة لكل العناصر المؤدية لوظائفها في اللوحة .وبهذا يمكن أن تُعزز اللوحة بكل ما من شأنه الارتقاء بعناصرها وحيويتها .فالرمز في لوحاته مثلا ً له قدرة على التوليد والابتكار الذي لا يعكس سوى جمال مرئيات الفنان .