الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
التمرّد بوصفه مولد الإبداع

بواسطة azzaman

التمرّد بوصفه مولد الإبداع

حيدر الربيعي

 

التمرد جمرٌ تحت رماد الروح، يشتعل كلما حاولت العادة أن تطفئه بماء الطاعة. هو نارٌ سرّية تمخر عباب الجسد مثل سفينة تبحث عن ميناء لا يظهر على خرائط الأرض. المبدع حين يتمرد يشبه عاشقًا يفتح بابًا في جدار الليل، فيدخل إلى بحار لم تبحر إليها سفينة من قبل، ويكتشف أن الغياب أحيانًا طريق إلى الحضور، وأن السرّ لا يتجلى إلا لمن تجرأ على السؤال.

ليس التمرد إنكارًا للوجود، بل كشفًا لما وراء ستائره. هو لحظة نور تندلع في عتمة المعنى، حين يذوب الحرف في نهر داخلي لامحدود، وحين تنكسر قيود الزمن فيرى الكاتب وجه الأبد. الشعراء حين تمرّدوا على قيد الوزن والقافية لم يهدموا اللغة بل حرروا أنفاسها، والمتصوفة حين خرجوا على ظاهر الطقوس لم يلغوا الصلاة بل جعلوها صلةً لا تنقطع. كل تمرّد هو جسر بين ظاهرٍ بارد وباطنٍ يتوهج.

الإبداع لا يسكن بيت الطاعة، إنما يرحل مع الريح، يعانق الصحراء والبحر، يكتب بالندى على زجاج الفجر، ويخطّ بالدمع على حجارة الغياب. المبدع يرفض أن يكون ظلًا في مرايا الآخرين، يفتش عن صوته كما يفتش العطشان عن الماء في قلب صحراء لا نهاية لها. وفي لحظةٍ من لحظات التوهج، يجد أن البحر كله كان يسكن قطرةً في عينه، وأن الكون كله لم يكن سوى مرآة تعكس صرخته الأولى.

لقد كان الكبار متمردين لأنهم عرفوا أن الصمت قبر إذا لم يتشقق عنه النداء، وأن الحياة نسخة باهتة إذا لم يُكتب عليها بالحبر والجمر. الصوفي الذي مزّق حجب العادة حتى رأى النور، والفنان الذي حوّل الخطوط إلى نوارس، والشاعر الذي جعل من الغياب وطنًا، كلهم تمرّدوا فصاروا شهودًا على أن الإبداع لا يولد إلا من نارٍ تأبى أن تخمد.

التمرد هو الوضوء السري للكلمات، هو أن تغتسل الحروف من غبار المألوف لتدخل صلاتها الكبرى. إنه الانحناء أمام النور لا أمام القيود، والانتماء إلى سرّ لا يُدرك بالعقل وحده، بل بالروح حين تشتعل. ومن هذا الجمر يولد النصّ، لا كحروفٍ مرسومة، بل كوميضٍ يفتح للوجود بابًا جديدًا.

 

 

 

 

 


مشاهدات 86
الكاتب حيدر الربيعي
أضيف 2025/09/24 - 2:58 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 12:19 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 363 الشهر 19600 الكلي 12037473
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير