تنقيبات لحفريات المقدادي
معتز عناد غزوان
يشكل الادب الساخر اسلوبا نصيا سرديا يتمتع بخصوصية وهوية وملامح نثرية تمتلك ذات صاحبها وتعبر عنه تعبيرا صادقا، فالأسلوب الساخر يقود المجتمع دائما للكشف عن السلبيات التي تصاحبه بل ويعشها يوميا ضمن همومه ومشاكله المستمرة الطارئة منها والدائمية. من الجدير بالذكر ان الذين يمتلكون هذا التنوع الكبير في الدراسات الادبية والإعلامية الراصدة لكل مشاكل المجتمع وعراقيل هذه الحياة ليسوا بالكثيرين بل انهم لا يكادون يعدون على عدد الاصابع ومنهم الاستاذ الدكتور كاظم المقدادي الاعلامي والأكاديمي المرموق الذي عرفناه من خلال كتاباته الساخرة التي تقدم لنا من خلال النقد البناء والبساطة الواضحة العديد من المشاكل التي تواجه المجتمع العراقي تحديدا. فهو يختار عنوانات كتبه بشكل حريص وبتأني واضح وبعلامات سردية مثيرة للقارئ حال قراءته لذلك العنوان او ذاك، انه يربط ما بين كلمة (حفريات) وعبارة (قلم الرصاص)، فالحفريات هي تنقيب عمودي للبحث عن الحقيقة الغائبة والتي تحتاج الى منقب ومشخص دقيق من اجل التعريف بالمعلومات والكشف عن مكنوناتها وتأثيراتها نحو المتلقي. وقلم الرصاص هو الذي يبدأ المتعلم البسيط اول دروسه التعليمية يكتب ويرسم به الحروف ويصوغ الكلمات عبر التوصيل بين نقاطها ليتعلم كيف يصوغ النص الناضج الذي يقود من خلاله المجتمع العراقي نحو ادراك واستيعاب الحالة والموضوع بل والاقتناع بالمضمون ايضا.
جال المقدادي في رحلته السردية هذه ودخل الينا من خمسة ابواب متنوعة صنفها بحسب محتوياتها الدلالية والرمزية والإيحائية في سرد يشوبه بعض الاشارات المشفرة احيانا خلف سواتر تحتاج الى فك رموزها المتحولة عبر زمكانها من خلال التعبير المختلف وبلغة ساخرة تحتوي على مغزى قصدي. تضمن الباب الاول عنوان يقول (تحت الخط الاحمر)، اذ يخوض المؤلف بسرديات يسودها اللون السياسي الاحمر احيانا والأبيض والأسود المتضادان في احيان أخرى اما الاخضر والأزرق بهدوء موجيتهما اللونية فلم يكن لهما حضورا، مما يعطي للقارئ يقينا بان المؤلف تقصد في عرض الظواهر السلبية التي تفرضها السياسة الان... كما وضع لتلك السرديات عنوانات غريبة وساخرة احيانا وكأنه يخاطب القارئ على سجيته وكيف يستطيع القارئ ولاسيما العراقي ان يدرك من خلال انجذابه التام للعنوان وان يشعر بقوة تعبير هذا السرد او ذاك، فهو يشبه الاختناقات المرورية بالاختناقات الحكومية... انها تناصات غريبة تثير الدهشة وتجعل القارئ متشوقا لقراءتها. فهو ناقد موضوعي يحدد جوانب النقد الذاتي بموضوعية ورأي حر في الحكم على ما تجول به سردياته هذه من اجل ايضاح وجهة نظره وبكل حرية... فهو يدرك تماما ان حرية الرأي في التعبير هي اساس استقرار الشعوب ونمو حياتها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وحتى اقتصاديا، ليضع لنا حقائق لابد من ملاحظتها بشكل جلي وراء عبارات وكلمات ساخرة ناقدة للفساد والتمادي في ذلك من دون رادع. لقد أكد المقدادي في هذا الباب من حفرياته الرصاصية المثقلة والمحملة بأمانة لنقل معاناة الشعب الفلسيطيني الجريح الذي يذبح يوميا بشراسة وسكوت دولي ليقول ((ان ملحمة السابع من اكتوبر حركت الضمير العالمي، ونقلت القضية الفلسطينية من ركامها... لتكون الحدث الابرز في الاعلام الغربي... والسياسات الدولية... كما ان المقاومة الفلسطينية اصبحت رقما صعبا في المعادلات الدولية الجديدة، لكن للأسف لم تكن الزعامات العربية المتفرجة في مستوى غضب المظاهرات العربية والعالمية)). لقد حاول المؤلف الدكتور كاظم المقدادي ان يضع القارئ في الحدث بزمكانه وان يشعر المتلقي بحجم المأساة الحقيقية التي تشكلها معاناة الشعب الفلسطيني المناضل من اجل حريته واستقلاله تحت صمت عربي ودولي. سلطت سردياته الساخرة الاخرى في هذا الباب من حفرياته النظر على بعض الاراء الشخصية التحليلية له لشخصيات عراقية سياسية مختلفة من محللين وإعلاميين وسياسيين كبار استطاع المؤلف ان يتعرض للعديد منها من خلال المتابعات الاعلامية له شخصيا، كما وضع القيم الوطنية الاصيلة التي تنتمي للوطن محبة وإخلاصا حقيقيا منارا مهما في بوصلته الرصاصية، ليختتم هذا الباب قائلا ((فكرة الوطن دولة وشعبا متنوعا متآخيا تاريخا وجغرافية وحدود، هي الأساس للحفاظ على الهوية الجامعة المانعة التي تجمع ولا تفرق، الانسانية جوهرها... وروح العمل رسالتها)). اما الباب الثاني فقد وضع المؤلف عنوانا متميزا له والموسوم (فضاءات بالوان الفرح) اذ تطرق فيه الى حوارات وسرديات ترتبط بذاتيته المطلقة وانطباعاته الخاصة لتلك الشخصيات التي عرضها في هذا الباب ومنها سعاد السامر الاعلامية والاديبة الرصينة التي عرض المؤلف بعض من قصائدها وحلل تلك الصور الشعرية التي ترمزت في ابياتها ليخرج باستنتاج مهم قائلا: ((في جميع قصائدها كانت الشاعرة تدرك ان المنظور الجمالي غير محدد.. وانها كانت تميز بين حسها الجمالي الخاص وبين المفهوم العام للإدراك الجمالي، وفي اطار هذه الرؤية الجمالية المتقدمة والمتفردة استطاعت الشاعرة ان تؤسرنا وتأخذ بأيدينا الى شواطئ الجمال)). تطرق ايضا في هذا الباب الى شخصيات ثقافية عراقية اخرى مثل عبد الزهرة البياتي ونزيهة ابراهيم، وعقيل الحيدري، شاكر نوري، والدكتور احمد عبد المجيد في استعراض كتابه (الاهوال والأحوال) الذي عده المؤلف الدكتور كاظم المقدادي اضافة نوعية وجادة للفن الصحفي العراقي. كما تحدث عن الفنان الراحل الكبير طالب مكي الصامت الناطق على حد تعبير المقدادي، كاشفا الكثير من الزوايا الابداعية لهذا الفنان الكبير خلال مسيرته الحافلة والطويلة في الابداع ولاسيما في الفن التشكيلي، كما تطرق الى تجربة الاديب والأكاديمي العراقي الدكتور ضياء خضير ودراسة فن ادبي مهم هو ادب الرسائل وقد كشف المقدادي من خلال تلك السرديات عمق العلاقة والمحبة والصداقة التي جمعته بالدكتور ضياء خضير ايام دراستهما الباريسية، وقد قدم الدكتور ضياء خضير كتابه هذا بعبق مكاني رصين في ذاكرتهما الراسخة علما وأدبا ومحبة. ولعل من اهم ما كشفته سردياته المتميزة في هذا الباب هي تحليله للوحة الفنان والرسام والصحفي الرائد ضياء الحجار الذي رسم المقدادي وهو يحمل قلم الرصاص بديلا عن السيف، ويحتمي بالكتاب بديلا عن الدرع ويبتسم بسمته المعهودة بثقة وبخطى ثاقبة وسط الوحوش المفترسة، وقد زينت هذه اللوحة غلاف كتابه هذا. لقد استطاع قلمه الرصاص اين يمنح سرديات نقدية مهمة في ميدان الفن التشكيلي بشكل عام والكاريكاتير بشكل خاص لاسيما ان الاخير هو جزء من تخصصه الدقيق صحفيا وإعلاميا ورئيسا لتحرير جريدة (الكاروك) التي كانت تصدر في صفحتها الاولى رسوما كاريكاتورية ساخرة تنتقد بموضوعية ما يجري على الساحة العراقية من تحولات سياسية واجتماعية مختلفة. حيث كشفت سردياته الكاركاتورية الكثير من الخصائص الفنية والجمالية والأسلوبية للكثير من رواد هذا الفن المتجرد والمتميز ومنهم مؤيد نعمة وخضير الحميري الذي وصفه المقدادي قائلا: ((انه أشبه من يحمل مبيدا للحشرات الضارة، ومن يبحث في حديقة محشوة بأعشاب ضارة تنمو بسرعة، وفي وطن تعسكر من رأسه الى اخمص قدميه، في زمن اختفت فيه المؤسسات وانتعشت فيه المسدسات)). كما تطرق ايضا الى دراسات سردية جمالية لتجارب فنانين عراقيين كالفنان والرسام العراقي المغترب في هولندا ستار كاووش والفنانة الشابة تيسير كامل حسين. واختتم هذا الباب بمقال للمؤرخ العراقي الدكتور ابراهيم العلاف بعنوان (ابراهيم العلاف وكاروك المقدادي) والتي تحدث فيها عن دور الدكتور كاظم المقدادي اعلاميا وصحفيا ساخرا واثقا من اسلوبه وخصوصية سردياته المهمة.
تطرق الباب الثالث في هذا الكتاب بعنوان موسوم (بين بغداد وباريس) والذي اختصر فيه المؤلف رحلته الدراسية الطويلة في جامعة السوربون في فرنسا بداية ثمانينيات القرن الماضي حيث تماسه المباشر مع كبار المفكرين والأدباء والشعراء الفرنسيين وحتى السياسيين، كما تطرق الى العديد من الدراسات الاعلامية والتحليلية للشخصيات الفرنسية السياسية مثل (جاك شيراك) و(امانوئيل ماكرون)، وقراءات مهمة للمستشرقين الفرنسيين المهمين (جاك بيرك) و(روجيه جارودي)، وأيضا (سيمون دي بوفوار) مؤلفة كتاب (الجنس الاخر) وزوجة الفيلسوف الوجودي الفرنسي (جان بول سارتر) اذ يروي المؤلف بانه قد شاهد سارتر مع زوجته بوفوار في الثمانينيات وهما يتجولان في شارع سان جرمان وقد كانت صدفة رائعة للمؤلف وهو يشاهدهما معا، ليقول ((اكتفيت بالنظر اليهما لكي لا افسد الحديث الذي كان يجري بينهما)). ومن سردياته الباريسية المهمة للمؤلف كانت لقائه مع شاعر المقاومة الفرنسي (لويس آركون) حيث يقول المقدادي في هذا الشأن ((في لقائي الاول الذي جرى في بيته الباريسي، استقبلني بحركة بطيئة، و وقف بصعوبة مرحبا وكان وقتها في بداية الثمانين من عمره، بعد سنتين فارق الحياة، وكنت في باريس وفوجئت بحجم الحزن الذي عاشته باريس في تلك الايام)). اما الباب الرابع فقد وضعه المؤلف تحت عنوان (رثاء على يافطة سوداء)، ففي هذا الباب قدم الدكتور كاظم المقدادي سرديات رثائية لشخصيات مؤثرة، فقد كتب سردا بعنوان طارق حرب الحقوقي والقانوني المرموق... جنابك هل رحلت، وحسن العاني الصحفي الرائد الغياب لا يليق بك، وسلام خياط وداعا، ورثائه للحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر في بغداد شارع المتنبي. اما الباب الخامس والأخير فقد كان بعنوان (ذاكرة بلون التركواز)، حيث يستعرض المؤلف الدكتور كاظم المقدادي محطات حياته الاولى في منطقة العطيفية ببغداد ومراحل دراسته الاولية هناك واهم اساتذته الذين تعلم منهم وما يزال يستذكرهم عرفانا بما قدموه في تطوير مسيرته العلمية والثقافية، واستعرض في سرديات وصف فيها تعلقه بالمكان وجذوره الابداعية حتى دراسته في المغترب الفرنسي، ويختتم المؤلف هذا الباب بشهادة مكانية وتاريخية مهمة هي ان سكنه ابان دراسته الباريسية كان في شارع (فيكتور هيجو) هذا الكاتب الفرنسي والشاعر والروائي العظيم الذي كتب دواوينه (التأملات، اسطورة العصر) ورواياته الشهيرة (البؤساء واحدب نوتردام)، ويصف المقدادي ذلك قائلا: (ان وجود سكن لي في شارع يرمز الى اديب فرنسي كبير يعني لي الكثير وأشعرني وكأني على موعد مع اديب فرنسا العظيم الذي يعد اهم رموز الحقبة الرومانسية في فرنسا)). وقد كتب الصحفي والشاعر عبد الامير المجر مقالا بعنوان (المقدادي رحلة كفاح ورسالة مثقف) في نهاية هذا الباب. كما قدم الكتاب الاستاذ الدكتور ضياء خضير بمقدمة تحت عنوان (حفريات المقدادي) ليختصر ذلك قائلا: ((هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ هو ثمرة تلك المسيرة الطويلة من المراقبة والتحليل والانخراط في الشأن العام، لا بوصفه خبرا او حدثا عابرا، بل بوصفه طبقة كثيفة من التفاعلات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، تحتاج الى عين نقدية حساسة، والى قلم يكتب بضمير حي وروح لا يخشى صاحبها في الحق لومة لائم)) لقد اصاب الدكتور خضير الوصف لصاحبنا كما يطلقها الدكتور المقدادي فقد كان وما يزال بعطاء وحيوية وابداع.