الطبيبة (بان) قضية رأي عام.. قتلت أم إنتحرت؟
أكرم عبد الرزاق المشهداني
كنت قد نشرت في صحيفة (الزمان) الغراء يوم 2025/5/4 مقالة بعنوان «جرائم الرأي العام المفهوم والتأثير على المجتمع» ناقشت فيه مفهوم «قضية رأي عام» او « أو «جريمة رأي عام»، حيث تحصل أحياناً جريمة بشعة او اكثر في المجتمع، ويتحرك المجتمع كله متأثرا بانعكاسات هذه الجريمة وخطورتها، والرعب او الاستنكار الذي تحدثه واستشعار نتائجها السلبية على أمن المجتمع، فيبدأ الرأي العام بواسطة وسائل التواصل الالكتروني (السوشيال ميديا) وكذلك من خلال أحاديث المجالس والحوارات وكلام الناس، منشغلا بالحديث عن تفاصيل هذه القضية وبإجراءات أجهزة إنفاذ القانون القضاء والشرطة والأجهزة الحكومية الأخرى المعنية فيما اتخذته من إجراءات لكشف هذه الجريمة وملاحقة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة بعد إقامة الدليل عليهم ومن ثم معاقبتهم عن هذا الفعل الاجرامي الذي اشغل المجتمع واقلقه.
وتطرقت في مقالتي حينها الى سلبيات وإيجابيات ان تتحول حادثة جنائية ما من مجرد قضية تحقيقية في أدراج القضاء والشرطة، الى هوس جماهيري يشغل ويقلق الراي العام ويجعله يتدخل مطالبا بإجراءات فاعلة وجادة من جهات الاختصاص، لكشف الحقائق وازاحة الغموض، فالتدخل الجماهيري او تدخل الراي العام في الشأن القضائي والشرطوي رغم انه تدخل قد يعيق الإجراءات السليمة، ويجعل تلك الأجهزة تحت ضغط التدخل الشعبي والمطالبات بالاستعجال في الإجراءات، وما قد يسببه هذا التدخل والاستعجال من ضياع للحقيقة. ولكن - على الجانب الآخر - هناك الوجه الإيجابي لهذا الأمر في انه يلزم الجهات المسؤولة للتعمق في التحقيق والجدية في الإجراءات لكشف الحقيقة وطمأنة الجمهور عامة وذوي العلاقة خاصة.
جريمة قتل
وعبر تاريخنا القضائي والشرطوي وسجلات الحوادث من عشرات السنين مرت بنا احداث جنائية كثيرة اتخذت صفة جريمة رأي عام، نتذكر منها (جرائم المجرم أبو طبر 1973)، وجرائم السطو على بعض المصارف ببغداد في الثمانينات، وجرائم قتل جماعي حصلت في منطقة الغزالية، ونتذكر مؤخرا جريمة قتل الشاب المهندس بشير في موقف شرطة الكرخ ببغداد، والتي وصلت اوجها في الاثارة الإعلامية ثم ما لبثت ان انطفأ بريقها بين الرأي العام وتم نسيانها تقريبا كما هو الحال مع كثير من قضايا الرأي العام التي تخفت وتذوب بمرور الزمان !!
ومنذ أسبوعين طفت على السطح قضية الوفاة الغامضة للطبيبة الاخصائية النفسانية البصرية الشابة بان طارق زياد وهل انها قتلت ام انتحرت؟ وضجت بتأويلات وتفسيرات الحادثة وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وأحاديث المجالس منها من يرى انها (قتلت) ولم تنتحر واخذت الرواية منحى جديداً بعيداً عن رواية الانتحار، ويرتبط بتعرضها للقتل الانتقامي بسبب تشخيصها لحالة أحد الأشخاص، ما تسبب بصدور حكم إعدام بحقه. على أساس ان ضغوطا مورست عليها من جهات متنفذة في البصرة كي تعطي رايا طبيا في الحالة النفسية لشخص متهم بقتل أستاذة جامعية، ولما رفضت الطبيبة (بان) هذه الضغوط فإنها تعرضت للقتل الانتقامي، ولكن التحقيقات العدلية وقرار الطب العدلي (الشرعي) وهو المرجع المعتمد في مثل هذه القضايا أشار الى الحالة لم تكن قتلا عمداً بل هي حالة انتحار.
ومما زاد من غموض وفاة الطبيبة بان هي روايات زملائها بكونها لم تكن تعاني أي مشاكل نفسية، بينما زادت تسريبات من تقرير الطب الشرعي للوفاة من تلك الشكوك بسبب طبيعة الجروح في جثة الراحلة. وأطلق متعاطفون في القضية، صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي لعرض تلك الصور ومقطع الفيديو، وسط تحليلات يستند أصحابها لكون الطبيبة ماتت مقتولة، ويستشهدون بتفاصيل الجروح في جثتها.
ادلة جنائية
ولكن جاء التقرير القضائي من محكمة استئناف البصرة مستندا لتقرير الطب الشرعي وتقرير الأدلة الجنائية ليؤكد ان الحادثة انتحار وليست قتل. حيث ان تقرير الطبيب الشرعي في البصرة يشير انه لا يمكن تأكيد الانتحار من خلال أوصاف المظاهر التشريحية مالم يؤكد ذلك بنتائج التحقيق نظراً لجسامة الاصابات في الذراعين والقرار للجهة القضائية وهي صاحبة القرار النهائي.
وتظل القضية التي تحظى باهتمام العراقيين، لغزاً ينتظر الحسم بسبب الوفاة التي تقول عائلة الطبيبة إنها « انتحارا»، بينما يؤكد زملاؤها وعدد كبير من المتعاطفين مع القضية أنها لم تكن تعاني من أي اضطرابات تدفعها للانتحار، ويبقى القرار بيد السلطة القضائية المختصة وامامها طريق طويل للتثبت واستخلاص الأدلة من الوقائع وشهادة الطب العدلي والأدلة الجنائية.
الدكتورة بان كانت تقدم محتوى طبياً على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد ظهر زملاء للطبيبة بان ومتعاطفون مع الراحلة، في محطات التلفزة العراقية للرد على رواية العائلة التي تتمسك بكون ابنتهم ماتت منتحرة. وقال زميل لها ان زميلته كانت شغوفة بعملها وبمزاج جيد، مشككا بكونها انتحرت كما تزعم والدتها. وتقول زميلة أخرى لها إن زميلتها (بان) «لو أرادت الانتحار فعلا لأخذت بعض العقاقير المعينة لتنهي حياتها بيدها دون أن تعذب نفسها». وشككت في رواية الانتحار، وقالت إن طريقة الانتحار بشق اليدين بطريقة طولية ليست طريقة الانتحار المعتادة، فالانتحار عن طريق الشخص نفسه تكون عادة بشق أفقي عند المعصم وليس عبر شق طولي يصل إلى عظام اليد. كما تجدر الإشارة الى ان شكوك تدور بشأن تورط شقيق الراحلة في مقتلها. ونقلت وسائل إعلام عراقية عن مصادر أمنية إشارتها إلى وجود خلافات حادة بين الراحلة وشقيقها قبل أيام من رحيلها.
ونحن على ثقة مطلقة في عدالة قضائنا العراقي صاحب السجل والتاريخ المشرف في حرصه على إقامة العدل والوصول للحقيقة من خلال التعمق بالتحقيق والاستعانة بالخبراء واستخلاص الأدلة من الوقائع وتقارير الطب العدلي والأدلة الجنائية، لإظهار الحقيقة ومقتنعون ان الحقيقة ستظهر ان عاجلا أم آجلا.
استشاري قانوني وأمني