حين يُقاس الأمان بالساعة.. نستعيد معنى نعمة الإستقرار في العراق
إسماعيل محمود العيسى
ليست كل صورة تُرى مجرّد مشهد عابر، فبعض الصور تفتح أسئلة كبرى عن معنى الدولة، وحدود مسؤوليتها، وقيمة الإنسان حين يُترك ليواجه الخطر وحده، لافتات تحذيرية شاهدتها ضمن أحد البرامج الوثائقية، تحمل عبارات صادمة في بساطتها:
“Crime Alert – Do Not Stop”
“No Crime 8am – 6pm”
عبارات لا تقول إن الجريمة طارئة، بل تقول ضمنيًا إن الأمان نفسه مؤقت ومربوط بالزمن والمكان.
هذه المشاهد لم تكن بعيدة عن تجربتي الواقعية أيضًا، فقد سبق لي أن زرت الولايات المتحدة الأميركية؛ واطلعت عن قرب على واقع أحدى مدنها؛ حيث تكون الدولة حاضرة بكل مؤسساتها وقوتها، ومع ذلك يبقى شعور الأمان في بعض المناطق خاضعًا لحسابات الساعة والحيّ ونسبة الخطورة، وتتحول ساعات المساء في أحياء محددة إلى وقت يُنصح فيه بعدم التوقف أو التجوال، لا لأن الدولة غائبة بالكامل، بل لأن قدرتها على الضبط ليست مطلقة في كل الأوقات والأمكنة.
شروط ميدانية
وهنا تتبدّى الحقيقة الصعبة: حتى الدول الكبرى لا تعد مواطنيها بأمان دائم، بل بأمان نسبي، متغيّر، مرتبط بشروط ميدانية دقيقة.
وعند هذه النقطة تحديدًا، يعود بي التفكير إلى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لخّص قيمة الحياة كلها بثلاثة أركان لا رابع لها:
«من أصبح آمِنًا في سِربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا».
حديث لا يتحدث عن الرفاه، ولا عن الترف، ولا عن فائض المال، بل يبدأ بالأمن، لأنه الأصل الذي إن سقط، تساقط ما بعده.
ومن هنا تصبح المقارنة واجبة بروح الإنصاف لا المبالغة.
العراق الذي عرف أقسى صور الإرهاب، وذاق مرارة التفجيرات، وواجه أخطر موجات العنف، يعيش اليوم – رغم كل الإشكالات والتحديات – واقعًا أمنيًا يشعر فيه المواطن أن الحركة ليست مربوطة بساعة، ولا الخروج من البيت مشروطًا بقرار غير معلن، ولا المدينة مقسومة إلى أوقات أمان وأوقات خوف، المواطن العراقي يتحرك ليلًا ونهارًا، يذهب إلى عمله، جامعته، مستشفاه، ويعود إلى بيته في الغالب دون أن يفكر أن الزمن وحده قد يتحول إلى خطر.
ليس معنى ذلك أن الجريمة انتهت، ولا أن المخاطر زالت، فهذا لا يحدث في أي دولة في العالم، لكن الفرق أن الأمن في العراق اليوم ليس “موسميًا” ولا “مؤقتًا” في وعي الناس، بل أصبح حالة عامة يحسّ بها المواطن في يومه العادي.
ومن هنا يصبح الشكر واجبًا لا مجاملة.
الشكر لكل جندي واقف في حرّ الصيف وبرد الشتاء،
ولكل ضابط يسهر بينما ينام الناس.
هيبة دولة
ولكل عين استخبارية تراقب الخطر قبل أن يصل،ولكل يدٍ حملت السلاح لا لتستعرض القوة، بل لتحمي الحياة.
إن أعظم اختبار لهيبة الدولة ليس في استعراض السلاح، بل في قدرة المواطن أن يعود إلى بيته مطمئنًا في أي ساعة من ليل أو نهار، وإن أعظم نعمة يُرزقها الإنسان بعد صحته هي أن يشعر أن الله قد أنعم عليه بالأمان.
حين ترى في دول كبرى لافتات تحذّرك من التوقف بعد ساعة معينة، تدرك أن الأمن ليس رفاهًا ولا أمرًا مسلّمًا به، بل ثروة سيادية حقيقية، إذا ضاعت، لم تُغنِ بعدها قوة، ولا اقتصاد، ولا عمران.
لهذا نقولها بوضوح ووعي ومسؤولية:
الحمد لله على نعمة الأمن في العراق،
مع إدراكنا أن الحفاظ عليها ليس مهمة جهة واحدة، بل واجب دولة كاملة، ومجتمع واعٍ، ومؤسسات لا تنام، ومعركة مستمرة لا تتوقف عند لحظة استقرار، بل تُحرس كل يوم من جديد.