الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إستغلال الأقليات .. طاعون يدمر الدول

بواسطة azzaman

إستغلال الأقليات .. طاعون يدمر الدول

قتيبة آل غصيبة

 

منذ القرون الأولى للاستعمار الأوروبي؛ أدركت القوى الاستعمارية أن تفكيك النسيج الاجتماعي واللعب على التناقضات الدينية والإثنية والعرقية داخل الدول المحتلة؛ هو من أنجع الأدوات لضمان السيطرة والاستمرار في الحكم؛ فقد كان الاستعمار البريطاني  أبرز من أتقن هذه اللعبة؛ مستغلا الأقليات لتفتيت المجتمعات وإضعاف حركات التحرر الوطني؛ ولم تنته هذه السياسة بانتهاء الاستعمار البريطاني؛ بل ورثتها الولايات المتحدة الأمريكية في عصر الهيمنة العالمية؛ بينما طبقها الكيان الصهيوني في محيطه العربي كجزء من مشروعه التوسعي في المنطقة.

كانت قاعدة «فرّق تسُد»؛ العمود الفقري للسياسة البريطانية في مستعمراتها؛ إذ استخدمت بريطانيا الأقليات كأدوات لضرب الأغلبية؛ أو لتحقيق توازنات سياسية تضمن بقاء الهيمنة البريطانية؛ فقد عمّقت بريطانيا الفجوة بين الهندوس والمسلمين؛ مما أدى لاحقًا إلى تقسيم الهند وقيام باكستان في عام 1947؛ وشجعت إنشاء «الرابطة الإسلامية» كقوة موازية لحزب المؤتمر الهندي، وكذلك دعمت بريطانيا الأقليات في العراق (مثل اليهود؛ والآشوريين؛ واليزيديين؛ والشيعة

في بعض الفترات) لضرب المجتمع السني أو العكس حسب الحاجة؛ وتجنيد أبناء هذه الأقليات في مؤسسات الجيش أو الشرطة؛ كما حصل مع مجموعات جيش «الليفي الآشوري» ، أما في السودان؛ فقد

فرّقت بريطانيا بين

الشمال المسلم والجنوب

 المسيحي/الوثني؛ وشجعت

 النخب الجنوبية على التمايز السياسي والثقافي؛ مما مهد لحرب أهلية طويلة انتهت بانفصال جنوب السودان في 2011، وكذلك في فلسطين فقد؛ ساعدت بريطانيا

 على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين؛ واستغلت الانقسام العربي الداخلي (دينيًا وسياسيًا) لضمان تمرير «وعد بلفور» عام 1917؛ ثم حكمت فلسطين بسياسات تحابي المشروع الصهيوني.

سياسات حاضرة

أما سياسات الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان وبلدان المغرب العربي ( تونس والجزائر والمغرب )؛ فقد ركزت على دعم الأقليات بدافع حماية  حقوقهم كما تدّعي؛ إلا انها في الحقيقة؛ استخدمتها كأداة استعمارية متقنة لزرع الانقسامات داخل مجتمعات تلك الدول؛ وضمان استمرار نفوذها؛ بعد خروج قواتها المحتلة؛ إذ لا تزال آثار هذه السياسات حاضرة حتى اليوم في البنية السياسية والطائفية والاجتماعية لدول كانت ضحية لهذا الاستغلال الممنهج للأقليات المستهدفة؛ فقد أسست في سوريا ولبنان خمس كيانات طائفية خلال الانتداب (علويون؛ دروز؛ موارنة؛ دمشق؛ حلب)؛ ودعمت المسيحيين الموارنة كمركز نفوذ سياسي في لبنان؛ وشجعت انخراط الأقليات في الجيش والإدارة الفرنسية لضرب الحركات الوطنية، أما في المغرب العربي؛ فقد منحت اليهود الجنسية الفرنسية من خلال «قانون كريميو» الذي أصدرته في (1870م) ؛ وفضلت النخب الأمازيغية على العرب؛ وفي المغرب: أصدرت وثيقة «الظهيرالبربري»

في (1930م) لفصل الأمازيغ عن الشريعة الإسلامية والعروبة،

 وفي تونس خلقت طبقة وسطى فرنكوفونية تدين لها بالولاء.

 بعد الحرب العالمية الثانية؛ ورثت الولايات المتحدة الأمريكية النفوذ البريطاني في كثير من مناطق العالم؛ واتبعت نهجاً مشابهاً في التعامل مع الأقليات؛ ولكن بذريعة الدفاع عن  الديمقراطية وحقوق الانسان، فقد دعمت الولايات المتحدة الامريكية في أفغانستان طوائف «الطاجيك والأوزبك» ضد طالبان ذات الغالبية البشتونية؛ بل شجعت فكرة الفيدرالية الطائفية لاحقاً لضمان استمرار الانقسام، وفي العراق بعد غزوه وإحتلاله في 2003م؛ مارست أمريكا سياسة المحاصصة الطائفية والعرقية؛ وقامت  بتوزيع السلطة بين الشيعة والأكراد

والسنة؛ وكرست النفوذ السياسي للأقليات على حساب دولة المواطنة؛ كما استخدمت المكونات الصغيرة (التركمان؛ الشبك؛ الكلدان؛ الآشوريين) ضمن لعبة التوازنات، أما في سوريا؛ فإنها اعتمدت على الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية) لضرب «داعش»؛ لكنها في الوقت ذاته استخدمتهم كورقة ضغط ضد النظام السوري المخلوع  وتركيا؛ ثم بدأت بالتخلي عنهم بعد سقوط نظام بشار الاسد وفقا للمتغيرات الجيو سياسية؛ بضرورة استقرار سوريا؛ وإبعادها عن النفوذ الايراني؛ الذي يمكن عودته مع استمرار الفوضى فيها.

إن الحلقة المهمة في هذا الموضوع هو سعي الكيان الصهيوني لتفكيك المحيط العربي؛ فمشروعه يعتمد

 مبدأ «أقلنة المنطقة»؛ فقد نفذت استراتيجية عميقة تقوم على دفع الدول العربية نحو «الأقلنة»؛ أي تحويل المكونات الدينية والطائفية والإثنية إلى كيانات سياسية مستقلة أو متصارعة؛ لضمان تفوق كيانه المجرم بوصفه «الدولة اليهودية الوحيدة» وسط فسيفساء طائفية؛ بالاعتماد على وثيقة؛

بالاعتماد على النص الحاكم للاستراتيجية الصهيونية تجاه الدول العربية؛ والتي تتلخص في التصريح الشهير لرئيس الوزراء الصهيوني الاسبق ديفيد بن غوريون (ت:1973) الذي يقول فيه؛ «نحن شعب صغير وإمكاناتنا محدودة؛ ولا بد من اختزال هذه المحدودية في مواجهة أعدائنا من الدول العربية من خلال تشخيص ومعرفة نقاط الضعف لديها؛ وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات الإثنية والطائفية؛ حتى نضخّم هذه النقاط إلى درجة التحول إلى معضلة يصعب حلها أو احتواؤها؛ وضمن هذا المحتوى الاستراتيجي الخطير؛ وضمن أطار هذه الاستراتيجية الخطيرة النابعة من الفهم الصهيوني للبيئة الاجتماعية للدول العربية والاسلامية؛ فقد أعقبها صدور وثيقة «استراتيجية كيفونيم»؛ التي نشرت في  مجلة كيفونيم؛ وهي مجلة تصدر عن المنظمة الصهيونية العالمية؛ «في العدد رقم 14؛ فبراير 1982» ؛ بعنوان (استراتيجية إسرائيل في الثمانينات) :

(A Strategy for Israel In the eighties)؛

قام بإعدادها الخبير السابق في وزارة الخارجية الصهيونية «عوديد ينون» والمحلل السياسي والاستراتيجي المقرب من الدوائر الأمنية الصهيونية؛ ورئيس الوزراء الاسبق أرييل شارون؛ إذ اقترح بموجب هذه الوثيقة  الخطيرة؛ تفكيك العراق وسوريا ومصر ولبنان إلى دويلات على أسس طائفية وعرقية، وتنفيذا لهذه الاستراتيجية، فقد سعى الصهاينة عملياً إلى دعم الميليشيات المسيحية في لبنان (مثل جيش لبنان الجنوبي أو ما يسمى جيش لحد)، وتشجيع النزعات الانفصالية في شمال العراق ودعم وتسليح الاكراد، وتسليح جماعات كردية وسريانية في سوريا، وقام الصهاينة بتقديم انفسهم  حُماة للأقليات الدينية (مثل الدروز في الجولان؛ واليهود الشرقيين في الدول العربية)؛ إن «استراتيجية كيفونيم» تعتبر من أخطر الوثائق التي كشفت الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى للكيان الصهيوني تجاه الشرق الأوسط؛ وتدعو بشكل صارخ إلى تفكيك الدول العربية والإسلامية المحيطة بالكيان الصهيوني إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة؛ حتى يظل الكيان الصهيوني هو القوة المهيمنة في المنطقة؛ ويبقى قوياً ويتمدد؛ من خلال  تفكيك الدول العربية المحيطة به إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة متناحرة، فقد أكدت هذه الاستراتيجية الخطيرة على، تقسيم العراق والذي تصفه هذه الاستراتيجية؛ بأنه (أكبر تهديد استراتيجي للكيان الصهيوني) ؛ إلى ثلاث دويلات؛ دويلة كردية في الشمال؛ دويلة شيعية في الجنوب؛ ودويلة سنية في الوسط، أما سوريا فإنها تُقسم إلى أربع كيانات؛ دويلة علوية في الساحل (اللاذقية)؛ دويلة درزية جنوبية؛ دويلة سنية في حلب؛ دويلة سنية في دمشق، وتقسيم مصر الى دويلة قبطية في الصعيد؛ دويلة إسلامية في القاهرة؛ودويلة في سيناء يمكن ربطها بغزة، أما لبنان الذي أعتبرته الوثيقة «نموذجًا ناجحًا» لسياسة التفكيك؛ والاستمرار على تُشجع الانقسام الطائفي والمذهبي فيه، وتوكد الوثيقة على ان الاردن تعتبر «دولة مصطنعة»؛ ويقترح «عوديد ينون» فيها؛ دمج جزء منها مع الدولة الفلسطينية المقترحة في الضفة الغربية وغزة؛ وتهميش الهاشميين، أما السعودية؛ فيقترح كاتب الوثيقة «عوديد ينون» تفكيكها إلى؛ دويلة في الحجاز؛ ودويلة في المنطقة الشرقية (الشيعية والغنية بالنفط)؛ دويلة في نجد؛ وكيانات قبلية متفرقة، إن أهداف هذه الاستراتيجية الخبيثة، تسعى؛ لضمان تفوق الكيان الصهيوني كقوة إقليمية وحيدة في المنطقة؛  وتحطيم الدول العربية التي قد تشكل تهديدًا استراتيجيًا؛ وتشجيع النزاعات الطائفية والعرقية لتفتيت وحدة الأمة العربية  والإسلامية؛ واستغلال الأقليات الدينية والقومية كأدوات تخريب داخلي؛

غزو صهيوني

وإنشاء الشرق ألاوسط الجديد؛ والذي طرح مشروعه ونادى به رئيس الوزراء الصهيوني الاسبق «شمعون بيريز؛ ت : 2016»؛ مؤكدا على الدور الريادي للكيان الصهيوني فيه من خلال (كتابه الشرق الأوسط الجديد؛ الذي اصدره في 1993)، ومن المقرر ان  الشرق الأوسط الجديد؛ يتم بناءه بالاعتماد على «الفوضى الخلاقة»؛ وهي فكرة ظهرت لاحقًا بشكل بارز في السياسات الأمريكية، وبرغم أن « وثيقة كيفونيم» لم تكن وثيقة رسمية للكيان الصهيوني؛ إلا أن الكثير من مجريات الأحداث بعد 1982 تناغمت معها بشكل لافت، منها؛ الغزو الصهيوني للبنان عام 1982  وتعاونها مع الميليشيات المسيحية، وانهيار العراق بعد 2003؛ ودخوله في دوامة طائفية، والحرب في سوريا في 2011 وتحولها إلى صراع طائفي؛ حتى سقوط نظام بشار الاسد؛ وما تشهده الان من صراع بين نظام سوريا الجديد والدروز في السويداء بتدخل صهيوني داعم للأقلية الدرزية؛ والحديث عن دولة كردية في شمال العراق وسوريا، وتصاعد النزعة الطائفية في دول الخليج واليمن. وجدير بالذكر؛ فقد اعتمد افكار «استراتيجية كيفونيم» فيما بعد المورخ الصهيوني «برنارد لويس»؛ والذي نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» مقالاً قالت فيه:» إن برنارد لويس «90 عامًا» المؤرخ البارز للشرق الأوسط؛ قد وَفَّرَ الكثير من الذخيرة الأيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب» ؛ حتى إنه يُعدّ بحقٍّ منظراً لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة. فخلال فترة رئاسة «جيمي كارتر» للولايات المتحدة  للفترة من 1977- 1981 تم وضع مشروع تفكيك الدول العربية والاسلامية؛ من قبل «برنارد لويس؛ ت: 2018» إعتمادا على» استراتيجية كيفونيم الصهيونية»؛ بعد ان وصل الى واشنطن ليعمل مع مستشار الامن القومي الامريكي «زيغينو بريجنسكي؛ ت: 2017»؛ إذ أسس مشروع تفكيك البلاد العربية الإسلامية ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضًا.

وهو الذى ابتدع مبررات غزو أفغانستان

و العراق؛ مؤكدا في مشروعه على تفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية؛ وتفتيت كل منها إلى مجموعة من «الكانتونات» والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية؛ ورسم الخرائط التي توضح  فيها التجمعات العرقية والمذهبية والدينية والتي على اساسها يتم التقسيم؛ فمشروعه هذا جاء متمماً لما طرحه الخبير الصهيوني «عوديد ينون»؛ في إستراتيجية كيفونيم الصهيونية»؛ وقد سلم «برنارد لويس» المشروع إلى «بريجنسكي»؛ حيث وافق» الكونجرس الأمريكي» بالإجماع وفي جلسة سرية عام 1983م على مشروع برنارد لويس؛ وتمَّ تقنين المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الإستراتيجية المستقبلية وهى الاستراتيجية التي يتم تنفيذها وبدقة واصرار شديدين؛ ولعل ما يحدث في المنطقة من حروب وفتن يدلل على هذا الأمر.

لقد تجاهلت «وثيقة كيفونيم» وسائل الإعلام العالمية في البداية؛ ولكنها لاحقًا أصبحت مرجعاً مهمًا في تفسير سياسات التفتيت في الشرق الأوسط؛ وتُرجمت

 الوثيقة لاحقًا إلى عدة لغات؛ واعتُبرت جزءاً من الأساس الفكري

لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» ؛ ومشروع «الفوضى الخلاقة» (الذي تبنته أمريكا لاحقًا في عهد بوش)؛ بالاضافة الى حقيقة التقارب الصهيوني مع الأقليات (مثل الأكراد والدروز)، إن «استراتيجية كيفونيم»

 ليست فقط نصاً تحليليًا؛ بل هي خريطة طريق استراتيجية لرؤية صهيونية عميقة تسعى إلى تفكيك العالم العربي والاسلامي؛ وزرع الانقسام المذهبي والقومي والعرقي؛ ليبقى الكيان الصهيوني المجرم القوة الوحيدة المُنَظمة والمستقرة في بحر من الكيانات المتناحرة؛ وإذا كانت الوثيقة قد كُتبت في 1982؛ فإن العقود التي تلتها شهدت خطوات فعلية لترجمتها على الأرض؛ أحيانًا بأدوات أمريكية؛ وأحيانًا بتخطيط مباشر من الكيان الصهيوني .

ختاما فإن سياسة استغلال الأقليات لم تكن مجرد أدوات ظرفية للقوى الاستعمارية؛ بل كانت استراتيجية ممنهجة استُخدمت لتفكيك المجتمعات من الداخل؛ وتسهيل الهيمنة والسيطرة على الدول التي تحتلها، وإبتداءا من بريطانيا وفرنسا إلى أمريكا ثم الكيان الصهيوني؛ فإن الأنماط تتكرر  وتُعاد صياغتها بما يتناسب مع العصر والوسائل المتاحة، لكن الجوهر واحد؛ وهو تفكيك الأغلبية؛ وتحويل الأقليات إلى أدوات اختراق، ويبقى

 التحدي أمام شعوبنا العربية والاسلامية؛  هو التحرر من هذه اللعبة؛ وبناء دولة المواطنة الحقيقية التي تحمي الجميع دون تمييز أو توظيف سياسي؛ وتقوم على  مبدأ المساواة أمام القانون؛ وتضمن حقوق الإنسان والحريات العامة دون النظر إلى الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي؛ وتُعلي من الهوية الوطنية الجامعة فوق كل الولاءات الفرعية.

والله المستعان..


مشاهدات 78
الكاتب قتيبة آل غصيبة
أضيف 2025/07/30 - 2:07 AM
آخر تحديث 2025/07/30 - 11:57 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 9 الشهر 20827 الكلي 11274438
الوقت الآن
الخميس 2025/7/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير